ماذا لو كنا نقرأ شيئا من تلك القصص العلمية الحقيقية، التي تسهل الإدراك والتمثل، وتحرر الفهم من مغاليق العجز عن الشرح والبيان، وتدهش العقل عبر هذه الرحلة العجيبة، وتقوي الإيمان بهذا الخالق العظيم.. كما تؤسس وتنمي التفكير العلمي وتعظم عوائده، وتطرد التفكير العشوائي وتحجم آثاره لم يعد الحديث عن اهمية العلوم الاساسية والتطبيقية، ودورها الحاسم في مستقبل البشرية، عنوانا مبهما للكثيرين.. إلا ان هذا التوجه ما لم يرفد ببرامج ومشروعات تجعل العلم والانحياز له جزءا من ثقافة عامة.. فسنظل نعاود قراءة منجزات علمية بعيدة عن وعي المجتمع بعمومه وقدراته في فهم أبعاد تلك المنجزات او تقدير دلالتها او تطوراتها، ناهيك عن القدرة على توظيفها اجتماعيا واقتصاديا على نحو يرفد قدرات بلدان لا تملك الكثير من مصادر الحياة، ناهيك عمن يملك مصدرا يكاد يكون وحيدا سيؤول للنضوب مهما طال زمن الاستنزاف. ويبقى التوجه نحو العلوم وتطبيقاتها، مرتبطا أيضا بمدى تفاعل المجتمعات مع العلوم ذاتها، من ناحية فهم أسسها وتصور أبعادها وقدرة اسهاماتها. وهو ما يشكل ايضا رافدا مهما لتعزيز ما يعرف بالتفكير العلمي المناقض الموضوعي للتفكير العشوائي او الخرافي. وبين هذا وذلك تبرز ثقافة العلم، كمسألة لا بد من مقاربتها.. إلا ما يجعل هذه الثقافة غير ذات حضور شعبي يعود ايضا لوسائل تقديم تلك الثقافة وطريقة كتابة مادتها ووسائل نشرها وتعزيز حضورها. توقفت عند نموذج للكتابة العلمية التثقيفية، من كتاب الجدول الدوري للعالم "بريمو ليفي"، نقله "ريتشارد دوكنز" في كتابه "الكتابة العلمية الحديثة" والذي ترجم اجزاء منه الدكتور شفيق السيد صالح. يتساءل ريتشارد دوكنز: ما قيمة ان نستطيع تعداد العناصر التي يتكون منها كوكبنا وغلافه الجوي دون أن ننفذ الى وظيفة وأهمية وتاريخ كل منها؟ لقد درسنا الجدول الدوري للعناصر في مادة الكيمياء، لكننا لم نقف على الاهمية الكونية لهذا الانجاز الهائل الذي بدأه العالم الروسي الكبير ديمتري منديليف عام 1869. في كتاب الجدول الدوري يؤرخ "بريمو ليفي" لكل عنصر بأسلوب قصصي بديع، ويختار دوكنز عنصر الكربون للاستشهاد بقدرة هذا العالم الكيميائي/ الاديب، الذي جعل من كتابه الجدول الدوري مزيجا متفردا من السيرة الذاتية للحياة والاحياء. سأعرض بعض ما كتبه بريمو ليفي عن عنصر الكربون، حتى يتبين لكثيرين ذلك الحرمان من فهم دور ومسار العلم في مفاصل الحياة منذ الولادة وحتى الموت. يقول بريمو ليفي: "لسبب ما يخص عملية السرد، فقد قررت ان تبدأ القصة عام 1840 رغم انها يمكن ان تبدأ في أي لحظة منذ مئات أو الالاف أو الملايين من السنين.. انفصلت ذرة الكربون من حفريات وبقايا متحللة من صخور الارض، فتلقفتها الرياح وصعدت بها عشرة كليو مترات إلى الاعلى. تنفسها صقر طائر، نزلت في رئته، لكنها لم تنفذ إلى دمه فطُردت، ذابت في مياه البحار، ثم في شلال هادر، لكنها طردت مرة أخرى.. ظلت تسافر مع الريح ثمانية أعوام.. عالية ومنخفضة فوق البحار.. بين السحب وفوق الغابات والصحراء والامتدادات اللانهائية للجليد.. حتى التقاطها واحتجازها لتبدأ رحلة الحياة العضوية. إن الذرة التي نتكلم عنها تتحد باثنين من توابعها (الأكسجين) لكي تبقيها في حالة غازية، لتحملها الرياح الى كرم للعنب عام 1848.. ومن حسن حظها انها وقعت على ورقة خضراء، ثم اخترقتها وتم تثبيتها بواسطة شعاع من الشمس. الكربون مفتاح مواد الحياة، لكن دخوله عالم الاحياء ليس مهمة سهلة، ويجب ان يتبع مسارا اجباريا معقدا. ذلك الحدث الهام الذي يقوم به الثلاثي: ثاني اكسيد الكربون، والضوء، والاوراق الخضراء، لم يتم معرفته بشكل كامل حتى الان. وربما يظل كذلك لأعوام طويلة. فهو شديد الاختلاف عن الكيمياء العضوية الاخرى البطيئة والثقيلة التي تحدث في جسم الانسان... ومع ذلك فهذا الحدث الكيميائي الراقي والدقيق تم ابداعه منذ مليارين او ثلاثة مليارات من السنين. تنفذ ذرة الكربون الى داخل الورقة الخضراء فتصطدم بعدد لا حصر له من ذرات النتروجين والأكسجين، وعندما تتلقى الرسالة الحاسمة من حزمة أشعة الشمس فإنها تتخلص من أكسجينها ثم تتحد مع الهيدروجين والفوسفور مكونة سلسلة عضوية هي عنصر الحياة او الطاقة. كل هذا يحدث بصمت وفي لمح البصر، وفي درجة حرارة وضغط الغلاف الجوي المحيط ومجانا. هذا الغاز الذي يشكل المادة الاولية للحياة - ثاني اكسيد الكربون- الذي يعتمد عليه كل كائن حي، والمآل النهائي لكل ذي لحم.. هذا الغاز والذي بشكل كمية ضئيلة من الغلاف الجوي والذي نعده تلوثا.. هذا الغاز المتجدد في الهواء تنحدر منه الحيوانات، والنباتات، والبشر بملياراتهم العديدة المتصارعة، وتاريخهم الذي يعود لآلاف السنين وحروبهم وعارهم ونبلهم وكبريائهم. من أكل من كرم العنب، احتفظ بالجلوكوز في جسمه لوقت قد يحتاجه فيه لإنتاج الطاقة (كالجري مثلا)، فجزيء الجلوكوز السداسي الشكل ذائب في ماء العنب، وسيجري في أصغر الالياف العضلية في الفخذ (مثلا)، حيث ينقسم فجأة الى جزئين متماثلين من حمض اللاكتيك، والذي سيتم اكسدته بالأكسجين القادم من الرئة عبر الدم.. ونتيجة لهذه الاكسدة ينتج جزء جديد من ثاني اكسيد الكربون تتولى الرئة دفعه الى الهواء مرة اخرى، مخلفا وراءه الطاقة التي ساعدت العداء على الجري. تلك هي الحياة.. ذرتنا اصبحت ثاني اكسيد الكربون مرة اخرى، محمولة فوق الرياح.. وبإمكان أي انسان أن يتخيل مئات القصص التي قد تدخل فيها تلك الذرة.. ربما في حجر كلسي لتعيش ملايين السنين.. أو نستمر في تصورنا العضوي لها محمولة على الريح، حيث تعبر بحر ايجه والادرياتيكي وفوق جزيرة قبرص لتحط في لبنان وتستقر في كائن معمر.. انها شجرة الأرز العظيمة. وسوف تمر بنفس الخطوات السابقة، لكن جزيئات الجلوكوز ستتحول الى سلاسل طويلة من السليلوز، وهناك ستبقى لمئات السنين، ما بقيت شجرة الأرز المعمرة. ولكن لنقل انه بعد عشرين عاما أي في سنة 1868، بدأت دودة الخشب تحفر جذع الشجرة حتى اللحاء، وهناك يتم ابتلاع الذرة - بطلة قصتنا - ابتلعتها يرقات سرعان ما تحولت الى خنفساء صغيرة رمادية.. لقد دخلت ذرة الكربون في واحدة من عيونها.. وبعدما تم تلقيح تلك الخنفساء ووضعت بيضها تم ماتت، ستستلقي الجثة الصغيرة مفرغة سوائلها تحت الشجرة.. لكنها ستبقى لفترة متماسكة يتعاقب عليها الثلج والشمس وهي مدفونة تحت الطين او اوراق الشجر الميتة، الا ان ذرة الكربون بداخلها لا تموت مثلها.. لتنطلق الذرة مجددا من الحشرة المتحللة الى الهواء. لقد كانت تلك الذرة ذات يوم في حبة عنب، وفي شجرة أرز، وفي دودة خشب.. وسوف ندعها تطير ثلاث مرات حول العالم حتى عام 1960. وتلك الدورة اقصر كثيرا مما يحدث في الحقيقة، فالفترة الحقيقية تصل لمئتي عام، ما لم تتجمد الذرة في حجر كلسي او فحم او قطعة من الالماس". هكذا يتحدث "بريمو ليفي" عن ذرة الكربون، هكذا يرحل بنا لعوالم محسوسة مدهشة تقرب لنا الصورة الذهنية كثيرا، وتجعلنا نفكر طويلا، ونتأمل أكثر في هذا الخلق العظيم المتقن الصنع.. وهكذا يستطيع ان يحكي قصصا كلها حقيقية عن ذرة الكربون التي اصحبت ألوانا وعطورا في الورود، وذرات الكربون في البحار التي تكوِّن الطحالب والاسماك، وذرات الكربون التي انتجت الطعام والطاقة للإنسان في تلك الرقصة الدائرية الخالدة للحياة والموت. ماذا لو كنا نقرأ بالإضافة إلى تلقيننا الجدول الدوري للعناصر في مدارسنا الإعدادية، شيئا من تلك القصص العلمية الحقيقية، التي تسهل الادراك والتمثل، وتحرر الفهم من مغاليق العجز عن الشرح والبيان، وتدهش العقل عبر هذه الرحلة العجيبة، وتقوي الايمان بهذا الخالق العظيم.. كما تؤسس وتنمي التفكير العلمي وتعظم عوائده، وتطرد التفكير العشوائي وتحجم آثاره. لمراسلة الكاتب: [email protected]