جاءت شريعتنا الإسلامية الغراء بكل ما يمكن أن يرتقي بالفرد المسلم قولا وعملا، وبكل ما يضمن حسن التواصل بين أفراد المجتمع المسلم، ومن ذلك الحوار الذي هو في حقيقته نافذة على الآخر، ومنهج في فهمه وسبر أغواره، ولأهمية الحوار جاءت به الشريعة، وأكد عليه القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى في خاتمة سورة النحل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)؛ فجعل سبحانه وتعالى الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، ولرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قصص عديدة في الحوار سواء مع أصحاب الديانات الأخرى، وحوارات أخرى كذلك حتى مع أهل الإسلام ذاتهم، فقد ثبت عنه -صلى الله عليه- وسلم في الحديث المشهور حواره مع ذلك الشاب الذي جاءه يستأذنه بالزنا وقد ثار عليه القوم وزجروه، فأمره الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأن يدنو منه وراح يحاوره حوار التربوي الرحيم العطوف: أترضاه لأمك؟! فقال: لا، جعلني الله فداءك.. الحديث، حتى وضع يده الشريفة ومسح على صدر ذلك الفتى فلم يعد يلتفت إلى شيء من ذلك في جو تربوي قائم على الحوار الهادئ المؤدب؛ لكن وعلى الرغم من تلك العناية بهذا المبدأ القويم، وهذا السلوك القولي الأنيق، إلا أننا وللأسف نلحظ افتقاد شريحة من مجتمعنا للحوار وآدابه، وأساليبه وحيثياته، حيث يكون تركيز الأسرة في تربية أبنائها في الغالب على آداب الطعام والشراب، والاهتمام بالدراسة وتحصيل العلوم غافلة عن تعليمهم وتدريبهم على مثل أدبيات الحوار والنقاش القائم على أسس صحيحة، ومبادئ مستقيمة كان من الضروري أن يتربى عليها النشء، حتى يتمكنوا من اكتساب القدرة على الاستماع للرأي والرأي الآخر، وتقبل النقد، والإنصات للمتحاور، والتعبير عن الرفض والاختلاف بطريقة راقية قائمة على الحجة والبيان، وطرح الآراء طرحًا حضاريًا راقيًا من دون اللجوء إلى ما يمكن ملاحظته اليوم من أساليب الدلال المفرط على الآباء؛ كإحدى وسائل الضغط عليهم، أو من خلال البكاء أو إغلاق أبواب الحجرات على أنفسهم وغير ذلك. الدكتورة نبيلة السعدي الأخصائية الاستشارية بالمركز المصري أوضحت أن الاختلاف إنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام: * الآداب الاجتماعية التي تستلزم حق كل شخص في إبداء رأيه مع قبول الاختلاف في الرأي الآخر دون النفور منه. * آداب أخلاقية تستلزم عند الاختلاف مع شخص آخر ألا يقع المحاور في فخ الهجوم على الطرف الآخر، الأمر الذي قد يصل إلى العنف والتطاول الشفوي والمادي. * الآداب العلمية التي تتمثل في معرفة حيثيات القضية محور النقاش ومحاولة إبداء الرأي وفق أسلوب علمي. إن الواجب يتطلب تربية الأبناء ومنذ الصغر على هذه الآداب، والأساليب المتحضرة في الاعتراض على القرارات أو المواقف التي لا تروق لهم، كون الأبناء يقلدون آباءهم في تصرفاتهم، وفي ردود أفعالهم، لذا فعلى كل أب وكل أم أن يتعاملوا مع مشكلاتهم وما قد يقع بينهم من اختلاف بأسلوب يبتعد عن العصبية وعن التعبير بالألفاظ المرفوضة مجتمعيًا وذوقيًا وأخلاقيًا، حرصًا على تربية أبنائهم وتنشئتهم وتعويدهم على أهمية أدب الاختلاف، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على سلوكهم مستقبلاً، ناهيك عن ضرورة عدم وضع اللوم على الأبناء في حال ارتكابهم للأخطاء. كما يجب على الأسرة الابتعاد عن الشدة والعناد في طرح وجهات النظر، وألاّ يكون ذلك إلا باحترام متبادل. وعلى الأب عدم استعمال سلطته الأبوية في فرض قراراته عنوة على بقية أفراد الأسرة، وأن يتوخى سبيل العنف مع أولاده، بل يجب عليه أن يعي بأن المعطيات الاجتماعية تختلف بسرعة وتفرض عليه الحد في التعامل. (د. محمد غازي، الخبير التربوي). إن الحوار عندما يختفي بين أفراد الأسرة يعلو مع ذلك منسوب الصراع، وتبدأ القطيعة بين الأب وأبنائه فتتعقد الأمور بمرور الوقت، وتتصدع الحياة الأسرية، ويلجأ الأبناء إلى أصدقائهم، وقد يؤدي الأمر إلى الانحراف. ومن الملاحظ أنه عندما يختفي الحوار بين الآباء وأبنائهم يؤدي مثل ذلك إلى أن يظهر الأبناء بوجهين الأول يحاول التصنع أمام والديه بأنه مطيع وهادئ حتى يتجنب وقوع المشاكل، والثاني الابن في حال غياب والده عن البيت ليظهر بشخصية أخرى، فما لم يستطع أن يمارسه أمام والده فهو يمارسه أمام والدته وإخوته. إذا نجح الوالدان في تقديم نموذج حوار يحتذى به؛ عندها ستظهر نتائج ذلك في خلق جو أسري مليء بالحوار والتفاهم، وعليه سينشأ مجتمع متماسك قائم على الحوار وآدابه، وبالتالي يكون قبول الآخر مهما كان منطقه أو رأيه أو توجهه. [email protected]