يزدحم العالم اليوم بالعديد من الأفكار والاتجاهات، وفي ظل التطور التقني في مجال وسائل الاتصالات زادت سرعة تبادل وتناقل تلك الأفكار والاتجاهات، مما حتَّم على الفرد المسلم الاهتمام باكتساب العلم والمعرفة وتنمية روح الاستقامة وإتقان مزيدٍ من المهارات. وتعد مهارة الحوار من أهم المهارات التي بدونها قد يفشل الإنسان في التواصل الإيجابي مع الآخرين، وفي تبادل الأفكار معهم، وفي تقوية الروابط الاجتماعية بهم والاستفادة مما لديهم. ويُعرف الحوار بأنه: تفاعل لفظي أو غير لفظي بين اثنين أو أكثر بهدف التواصل الإنساني وتبادل الأفكار والخبرات وتكاملها للوصول إلى نتائج مفيدة، بعيداً عن الخصومة والتعصب. وباختصار يمكن القول إن الحوار حديث بين طرفين أو أكثر، كل منهم يقصد عرض أفكاره وفهم أفكار الآخر. إذن: ليس هدفنا من الحوار إقناع الآخرين بوجهة نظرنا أو جعلهم يقفون معنا، وإنما هدفه الأساسي أن نُرِيهم مالا يرونه، ونطلعهم على أشياء غابت عن أذهانهم أو لا يعلمونها، وفي المقابل أن نرى ما لم نكن نراه من الأمور ونعلم ما لم نكن نعلمه. وقد أولى القرآن الكريم الحوار أهمية بالغة، وجعله وسيلة لتوجيه الناس وإرشادهم وجذب عقولهم، وامتاز الحوار في القرآن الكريم بالسهولة والبعد عن الفلسفات المعقّدة، وتضمن ألواناً مختلفة من الأساليب حسب عقول ومقتضيات أحوال المخاطبين الفطرية والاجتماعية، وغلّفت بلين الجانب وإحالة الجدل إلى حوار إيجابي يسعى إلى تحقيق الهدف بأحسن الألفاظ وألطف الطرق، قال الله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وبالتأمل في مجموع النصوص القرآنية الحوارية نجدها تؤكد على أن الحوار أسلوب مهم في دعوة الناس إلى الإيمان بالله تعالى، وإيصال الفكرة إلى المدعوين، وحل القضايا الخلافية بين أهل التوحيد وغيرهم. واستخدم رسولنا صلى الله عليه وسلم الحوار في دعوته وتربيته وتعليمه لأصحابه رضي الله عنهم، بل وشمل حتى أعداءه ومخالفيه، وتميز هذا الحوار النبوي باللين في العرض والقوة في البيان والدقة في المعلومة والأفكار وحسن الخطاب للمحاور معهم والصبر عليهم، والشمول والتوازن والالتزام بآداب الحوار. وعلى هذا الهدي النبوي سار علماء المسلمين في تربيتهم وتعليمهم للطلاب والناس، واعتبروا عدم استخدامه أحد أهم أسباب الضعف العلمي والجدل العقيم لدى الطلاب. وتُعد المدرسة المؤسسة الأولى التي تُسهم مع الأسرة في إعداد وبناء أفراد المجتمع وتربيتهم وتعليمهم بما يتوافق مع فلسفة المجتمع وقيمه وعاداته، وباستخدام إدارة المدرسة والمعلمين فيها للحوار في العملية التربوية والتعليمية فإن ذلك يسهم وبشكل فاعل في ترسيخ مفهوم الحوار وآدابه في نفوس الطلاب، ويؤدي إلى تحقيق العديد من النتائج الإيجابية للحوار، ومنها: 1- تشجيع الطلاب على المشاركة الفاعلة والإيجابية في عملية التعليم والتعلم، والتعبير عن أفكارهم وهمومهم مما يخفف من حدة التوتر والاحتقان الفكري والاجتماعي لديهم. 2- توسيع مدارك الطلاب وتنمية أفكارهم، لأنهم بأنفسهم يتوصلون إلى المعلومات والمفاهيم بدلاً من أن يُدلي بها إليهم المعلم، فتصبح أكثر ثباتاً ورسوخاً في أذهانهم. 3- إثارة اهتمام الطلاب بالموضوعات الدراسية المنهجية المقررة عليهم، عن طريق طرح المشكلات في صورة أسئلة واستفهامات، ودعوتهم للتفكير في اقتراح الحلول المناسبة لها. 4- تكوين شخصية سوية ومستقلة للطلاب تجعلهم يعتمدون على أنفسهم في التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومشكلاتهم، وهذا يساعد التربويين على تحديد مشكلات الطلاب والعمل على حلها. 5- اكتساب الطلاب لمهارات الاتصال والتواصل والتفاعل مع الآخرين، مثل مهارات: الحديث والكلام والتعبير والإنصات وإدارة الحوار. 6- توثيق الصلة بين المعلم وطلابه، لأن الحوار يعتمد على احترام وتقدير كل طرف للآخر، ويسمو بالعلاقة بين المعلمين والطلاب، ويحقق لهم الدافعية للإنجاز. 7- تُكسب الطلاب اتجاهات إيجابية كالموضوعية في طرح الأفكار وإصدار الأحكام، والقدرة على التكيف والتعامل مع من يخالفهم في الآراء. 8- تشجع الطلاب على الجرأة في إبداء الرأي، بقصد توضيحه للآخرين، والتعرف على آراء الآخرين تجاه آرائهم. 9- تولد عند الطلاب مهارة النقد والتفكير الهادف الذي يساعدهم على حل مشكلاتهم، من خلال تحريك قدراتهم العقلية، والربط بين الخبرات والحقائق، وينمي كذلك عندهم مهارة المقارنة، ويدركون أن الخير والشر في الناس ليس أمراً مطلقاً. ولتحقيق هذه الفوائد والنتائج الإيجابية من الحوار في التربية والتعليم ينبغي أن يتصف المعلم (المربي) بصفات، من أبرزها: 1- الحرص على معرفة الحق والوصول إلى الصواب، لأن المربي ليس هدفه إفحام المتربي وإنما تعليمه وتربيته، وقد روي عن حاتم الأصم قوله: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي، أفرح إذا أصاب، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي من أن أجهل عليه. (حلية الأولياء 8-82) 2- الرحمة بمن يحاورهم، لأن الرحمة تدعو المحاور إلى الرفق بالمتحاور واللين معه، والإنصات لهم بأدب وتفاعل، وتفهم مشاعرهم وفهم أفكارهم. 3- الاحترام والتقدير للطلاب الذين يحاورهم، لأن الاحترام يجعلهم يقبلون الحق، ويبتعدون عن الهوى والانتصار للنفس. 4- الحلم وعدم الغضب، لأن المعلم الناجح في حواره هو الذي يملك عواطفه وانفعالاته في المواقف التي تثير الغضب، فلا يتلفظ بالكلمات غير اللائقة، ولا ينتقد طلابه نقداً لاذعاً. 5- الإنصاف والاعتراف بالخطأ، ومنه الدقة في إصدار الأحكام وعدم التعميم، فالمعلم الناجح في حواره يقول: لا أدري، أو لا أعلم، عندما يكون كذلك. وهذا يشيع الثقة في نفوس طلابه به، ويكسبه المزيد من المصداقية. يقول مالك بن أنس: (جنة العالم لا أدري فإذا أغفلها أصيبت مقاتله). سير أعلام النبلاء 8-77 ولكي نصل بطلابنا إلى مستويات متقدمة في الحوار فإنه ينبغي علينا كمربين تدريب طلابنا على ممارسة الحوار بآدابه وأساليبه المختلفة، ومن أهم تلك الأساليب: 1- القدوة الحوارية: لأن القدوة من أكثر الأساليب تأثيراً في الطلاب، وبممارسة المعلمين ومنسوبي المدرسة للحوار والتزامهم بأدبه أثناء ممارسته يجعل الطلاب يستفيدون من هذه الحوارات ويتأثرون بها عندما يستمعون إليها، وبالتالي فإنهم يطبقون ما يرونه ويسمعونه، لأنهم ينظرون إلى معلميهم نظرة إعجاب وتقدير وعلى أنهم نماذج يقتدون بسلوكياتهم ويعملون بتوجيهاتهم. 2- تمثيل الأدوار: بحيث تطرح الموضوعات والقضايا على شكل حوارات يمثل كل قضية ورأي طالب أو طلاب والقضية الأخرى طالب آخر أو طلاب آخرين، ثم يتحاورون بحيث يوضح كل منهم قضيته ورأيه بأسلوب حواري وبإشراف المعلم، الذي يوجه ويعزز ويضبط ويدير الحوار. ويمكن تطبيق ذلك في النشاطات الطلابية كالإذاعة والمسرح. 3- إثارة التساؤلات: لأن الأسئلة الحوارية تثير تفكير الطلاب، وتساعد في التعرف على خلفياتهم العلمية، والوقوف على مدى انتباههم وتوسيع مداركهم، والتعرف على همومهم ومشكلاتهم وأفكارهم. 4- الدورات التدريبية: وهي من الأساليب الفاعلة في تدريب الطلاب على الحوار، وخصوصاً عندما يقدمها مدربون أو معلمون متخصصون ومؤهلون. أخيراً: الحوار من الأساليب التربوية التي استخدمها الإسلام في تربية العواطف الربانية والعقل الإنساني، والتفكير المنطقي السليم، والسلوك البشري السديد المستقيم، لذا سعدت الدنيا بنور الإسلام، وقادت أمم الأرض إلى نور العلم وفضائل الأخلاق، وتحرير العقل من الخرافات والأوهام، وتحرير الإنسان من الظلم إلى العدل. وتزداد حاجة طلابنا للحوار وتتأكد ضرورة تدريبهم عليه في ظل المتغيرات العالمية التي نوعت أساليب الحصول على المعارف والمعلومات والأفكار، ووسعت الأفق للمشارب والاتجاهات الثقافية والفكرية، وإن غياب الحوار عن مدارسنا ومؤسساتنا التربوية سيؤدي إلى كبت أفكار الطلاب وهمومهم، وطغيان الأنانية وحب الذات واتباع الهوى في نفوسهم، ومحدودية رؤيتهم للأمور والأحداث من حولهم. د. حمد بن عبدالله القميزي- المستشار الأسري في صحيفة شرق الإلكترونية