الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد قد ينزل بالمسلم نازلة، لا يسعه معها إلا أن يتخير بين أمرين محرَّمين أو مفسدتين ظاهرتين, بحيث تنسد أمامه جميع الطرق المباحة, وفي هذه الحالة فإن الشرع يجيز له أن يرتكب المفسدة الصغري منهما من أجل دفع المفسدة الكبرى, وهذه القاعدة مثال واضح على مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل مكان وزمان. ومن الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة ما إذا وقع نزاع بين فئتين من المسلمين، فسعى الناس في الإصلاح بينهما بالوسائل المباحة، فلم تؤد تلك المحاولات إلى نتيجة, فإنه يجوز في هذه الحالة مقاتلة الفئة الباغية مع ما تتضمن هذه المقاتلة من قتل وجراحات، فإذا رجعت إلى الحق والرشد فإنه يجب التوقف فورا عن مقاتلتها, قال الله عز وجل: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين». ومن الأمثلة أيضا ما إذا حدثت بين اثنين من المسلمين تباغض وتدابر، ولم يمكن دفع هذا المفسدة التي وقعت بينهما إلا بالكذب بينهما، وذلك بنقل كلمات إيجابية لكل منهما عن الآخر، فإن مفسدة الكذب تحتمل شرعا في سبيل دفع مفسدة القطيعة بين المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا، أو يقول خيرا» رواه البخاري ومسلم، ومعنى «يُنمي خيرا» أي يرفع حديثا ويبلغه على وجه الإصلاح وطلب الخير. ومن الأدلة التي استدل بها الفقهاء لهذه القاعدة قول الله عز وجل: «يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله والفتنةُ أكبر من القتل», والمعنى أن القتال في الشهر الحرام مفسدة,ولكن جريمة المشركين بالكفر بالله والصد عن سبيله وإخراج المؤمنين عن المسجد الحرام - وهم أهله - مفسدة أعظم، فاحتملت أخف المفسدتين لدفع أعظمهما. ومن الأدلة أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد, فأسرع إليه الناس, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، لا تزرموه - أي لا تقطعوا بوله-, وأهريقوا عليه سَجْلا من ماءأو دلوا من ماء»، ثم قال: «إنما بعثتم ميسرين, ولم تبعثوا معسرين» رواه البخاري ومسلم، لأن مفسدة قطع البول على الأعرابي واحتمال انتشار النجاسة في المسجد أعظم من مفسدة البول في مكان محدد،ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة.