الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد,,, تطرقنا خلال أسبوعين لمناقشة مختصرة لقاعدة «لا إنكار في مسائل الاجتهاد»؛ ونعني به الاجتهاد الذي يبنى على أدلة ظنية في ثبوتها أو دلالاتها أو على أدلة أصولية مختلف فيها. وهذه القاعدة من الفقهاء تقضي على خلاف كبير بين المسلمين في مسائل فرعية, يمكننا بل يجب علينا أن نتجاوزها لنبحث فيما هو أولى وأهم من النوازل والمستجدات المعاصرة. بل إن الفقهاء تعاملوا مع الخلاف بإيجابية أكبر من ترك الإنكار فيه, فقرروا أهمية مراعاة الخلاف الفقهي بالخروج منه, فجاءت هذه القاعدة «الخروج من الخلاف مستحب» داعية إلى أداء العبادات والمعاملات بحيث تصح على أقوال جميع الفقهاء أن أمكن. ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة, منها أنه يستحب لمن ارتكب ناقضا للوضوء على مذاهب بعض الفقهاء, لكنه غير ناقض على مذهبه, أن يعيد الوضوء؛ خروجا من خلاف العلماء, خصوصا إذا كان إماما في الصلوات, فلو أكل حنفي أو مالكي أو شافعي لحم جزور, فإنه يستحب له إعادة الوضوء؛ مراعاة لخلاف الحنابلة. ومثله المتوضئ الذي يعتقد استحباب بعض أفعال الوضوء, لكنها شروط على مذاهب بعض الفقهاء, فإنه يستحب له الإتيان بها؛ خروجا من الخلاف, ومن أمثلة ذلك دلك أعضاء الوضوء والموالاة, فالأول شرط عند المالكية, والثاني شرط عند الحنابلة, وكلاهما مستحب عند الشافعية, فيستحب له أن يأتي بهما؛ مراعاة لخلافهما. ومثال ثالث وأخير وهو استيعاب الرأس بالمسح في الوضوء, فإنه ركن عند المالكية والحنابلة, أما الشافعية فيكفي عندهم مسح أقل جزء من الرأس ولو بعض شعرة في حدود الرأس, فيستحب للمتوضئ الشافعي أن يستوعب رأسه؛ مراعاة لخلافهما, والأمثلة كثيرة جدا. وقد اشترط الفقهاء لإعمال هذه القاعدة ثلاثة شروط: أحدها أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى مخالفة السنة الثابتة, فإن خالفت السنة فالتمسك بها هو الصحيح, ومن ثم فإنه يستحب رفع اليدين في المواضع المعروفة في الصلاة, ولا يراعى الخلاف في ذلك؛ لأن السنة صحَّت بالرفع, ثانيها أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر, ومن ثم فإنه يستحب فصل ركعات الوتر, ولا يراعى خلاف من منع الفصل؛ لأن من العلماء من لا يجيز الوصل, وثالثها أن يكون الخلاف قويا, فإن كان ضعيفا فهو هفوة أو زلة, فلا تستحب مراعاته, ومن ثم فإنه يستحب الصوم في السفر لمن لا يشق عليه, ولا يراعى خلاف الظاهرية في منعهم الصوم في السفر؛ لضعف الخلاف.