رمي الجمار واجب من واجبات الحج، ونظرا لأن مكان الرمي صغير جدا، ولأن وقته قصير أيضا - حسب اجتهادات بعض العلماء -، فقد أدى الازدحام لرمي الجمار إلى وفيات تتكرر كل سنة في موسم الحج، وعندما حججت لأول مرة عام 1400 ه أو في السنة التي تليها كنت أسمع بعض المفتين في الحج الرسميين ينادون في مكبرات الصوت: ألا إن وقت الرمي ينتهي عند الغروب، فكان العجب يتملكني من تضييق وقت الرمي على الحجيج مع ما فيه من تعريض حياتهم للخطر أو للأذى على الأقل. إلا أنه مع كثرة الوفيات كل سنة خرجت العديد من الفتاوى الميسّرة، موسّعة وقت رمي الجمار، حتى بلغ الأمر ببعضها إلى الخروج عن معتمد المذاهب الأربعة، مع أن الالتزام بها فيه يسر كبير ولله الحمد، ولعلي لا أبالغ إن قلت: إن خلاف العلماء في وقت الرمي مظهر من أوضح مظاهر الرحمة المكنونة في الخلاف. فعلى سبيل المثال، اختلف علماؤنا رحمهم الله في تحديد بداية وقت رمي جمرة العقبة التي ترمى منفردة يوم العيد، ففي الوقت الذي يحدده الحنفية والمالكية من طلوع الفجر، فإن الشافعية والحنابلة يحددونه من منتصف ليلة العيد، فيجوز أن يبادر الحاج بالنفر من مزدلفة بعد دقائق من منتصف الليل، ثم يتوجه إلى منى ليرمي جمرة العقبة. وكما اختلفوا رحمهم الله في تحديد بداية رمي جمرة العقبة، فقد اختلفوا أيضا في تحديد نهاية وقتها، ففي الوقت الذي يحدده المالكية بغروب شمس يوم العيد، فإن الحنفية يجيزونه إلى الليل، ولكنه وقت إساءة عندهم، أما الشافعية والحنابلة فيمدونه إلى غروب شمس آخر أيام التشريق. وقد سرى الخلاف أيضا بين علماء المذاهب الأربعة إلى وقت رمي الجمار في أيام التشريق، فإنهم، وإن اتفقوا على تحديد زوال الشمس كبداية للرمي في اليوم الأول - بلا خلاف في معتمد الفتوى - واليوم الثاني - مع خلاف محدود -، فقد اختلفوا في تحديد بداية الرمي ثالث أيام التشريق، فحدده الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة بزوال الشمس، وهو قول صاحبيْ الإمام أبي حنيفة، أما عنده فيبدأ من طلوع الفجر. أما نهاية وقت الرمي في أيام التشريق فقد اختلفوا أيضا في تحديد نهاية وقته، فضيّقه المالكية بغروب الشمس لكل يوم، ومدَّه الحنفية إلى فجر اليوم التالي، ووسّعه الشافعية والحنابلة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق. والتلفيق بين هذه الأقوال والمذاهب مرفوض لمن اتبع مذهبًا من المذاهب الفقهية، إلا لعالم مجتهد ترجّح لديه ذلك - مع أهليته للترجيح -، أو لعامّي يسأل العلماء، ويأخذ بما يفتونه - من غير قصد تتبع للرخص -. ويجب على من يتصدى للإفتاء في موسم الحج أن يراعي خلاف العلماء في مسائله وأحكامه، وأن ييسر لهم ما أمكنه ذلك، إذ حفظ أرواحهم مقصد شرعي لا يجوز التهاون فيه.