الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمّا بعد: هذه القاعدة الفقهية مرتبطة بالقاعدة السابقة المقتضية أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ويترتب عليها أنه إذا كان اجتهادُ عالمٍ ما لا ينقض اجتهادَ عالمٍ آخر، فينبغي -من باب أولى- أن لا ينكر أحدهما على الآخر. وقد أوضحنا في القاعدة السابقة أن المقصود بالاجتهاد هو الاجتهاد الذي يُبنى على أدلة ظنية في ثبوتها أو دلالاتها، أو على أدلة أصولية مختلف فيها، أمّا الأدلة القطعية في ثبوتها ودلالاتها كآية قرآنية، أو حديث متواتر يفيدان القطع في دلالتهما، فإن الخلاف فيها غير سائغ، الأمر الذي يقتضي مشروعية الإنكار على مَن خالف الآية، أو الحديث المتواتر إذا كانا يدلان على المقصود دلالة قطعية. وبناء على ذلك فإن معظم الخلاف الفقهي بين فقهاء المذاهب الأربعة هو ممّا يسوغ فيه الخلاف؛ لأن لكل قول منها دليلاً عند أصحابها، ولأضرب على هذا مثالاً واحدًا ممّا اختلفت فيه المذاهب الأربعة على عددها، ألا وهي مسألة قراءة الفاتحة للمأموم. فقد رأى الشافعية أن قراءة الفاتحة ركن، فيجب على المأموم قراءتها في السرية والجهرية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. ورأى المالكية أن المأموم يجب عليه قراءتها في السرية دون الجهرية؛ اكتفاء بقراءة الإمام جهرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفًا»؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال: «فإني أقول: ما لي أنازَع القرآن»، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يجهر فيه من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. ورأى الحنابلة أن المأموم يجب عليه قراءتها في السرية، وفي أثناء سكتات الإمام في الجهرية، فإن لم تتسع سكتات الإمام لقراءتها سقط وجوبها، وقد توصلوا لهذا الرأي جمعًا بين دليلي الشافعية والمالكية. ورأى الحنفية كراهية قراءتها تحريمًا للمأموم في السرية والجهرية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن صلى خلف إمام، فإن قراءة الإمام له قراءة»، رواه أبو حنيفة في مسنده. فهذا عرض مختصر جدًّا لمسألة واحدة، ولكل مذهب أدلة أخرى، ومناقشات، وردود، ولم ينكر بعضهم على بعض عمليًّا، وإنما اقتصر الأمر على مناقشة نظرية في بطون الكتب.