الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: تطرقنا في القاعدة السابقة «لا إنكار في مسائل الاجتهاد» أن الاجتهاد الذي لا ينكر هو ما بُني على أدلة ظنية في ثبوتها، أو دلالاتها، أو على أدلة أصولية مختلف فيها، ومعظم الخلاف الفقهي بين فقهاء المذاهب الأربعة هو من ذلك النوع. وممّا ينبغي مناقشته ما نسبه ابن قاسم في حاشية الروض المربع (2/311) لشيخ الإسلام ابن تيمية من رفضه عموم هذه القاعدة، قال ابن قاسم: «قال شيخ الإسلام: قولهم: مسائل الاجتهاد لا إنكار فيه، ليس بصحيح، فإن الإنكار إمّا أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أمّا الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا، وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك، فإنه يُنكر عند مَن يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء». فهذا القول من شيخ الإسلام يدل على وجوب الإنكار في مسائل الاجتهاد عند جمهور السلف والفقهاء؛ لأنهم يقولون: إن المصيب واحد. ولكن جمهور الفقهاء يقولون: إن المصيب واحد، ولكنه غير معيَّن، ولذلك لا يتوجه الإنكار على المجتهدين، ولا على مقلِّديهم. وممّن أكَّد هذا المعنى الإمام البهوتي الحنبلي في شرح المنتهى (1/275) حيث قال: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي ليس لأحد أن ينكر على مجتهد، أو مقلِّد فيما يسوغ فيه الاجتهاد. ولو قلنا: المصيب واحد؛ لعدم القطع بعينه»، وممّن نص عليه أيضًا العلامة ابن ضويان في منار السبيل (1/125) حيث قال: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد؛ لعدم الدليل، ولو قلنا المصيب واحد». ولذلك فإن الفقهاء يفضِّلون مقالة الإمام النسفي الحنفي: «إذا سُئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفينا في الفروع يجب علينا أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصواب؛ لأنك لو قطعت القول؛ لما صح قولنا: إن المجتهد يخطئ ويصيب». انظر الأشباه والنظائر للعلامة ابن نجيم (381). ولذلك فإنه من الخطأ التعصب والاحتساب على أتباع المذاهب الفقهية الأربعة فيما اختلفوا فيه من مسائل الاجتهاد. قال العلامة السيوطي الرحيباني في مطالب أولي النهى (1/663): «(ولا إنكار في مسائل الاجتهاد). قال ابن الجوزي في السر المصون: رأيت جماعة من المنتسبين إلى العلم، يعملون عمل العوام، فإذا صلى الحنبلي في مسجد شافعي تعصب الشافعية. وإذا صلى الشافعي في مسجد حنبلي، وجهر بالبسملة تعصب الحنابلة. وهذه مسألة اجتهادية، والعصبية فيها مجرد أهواء يمنع منها العلم».