عقوق.. يبزغ فجر جديد في يوم جديد، وشمس أشرقت سماء الكون إلا سماء كونه هو، فقد استعصى شروقها على فجره ويومه، كل شيء يخفت حوله ويسكن، الحياة، الهواء، الناس، إلا من أهازيج قديمة يحشرج بها صوته، علّها تُؤنسه ليسترجع من ألحانها قصصاً تسكن في زوايا الزمن، الذي لم تُغادر أحداثه ولا أناسه ذاكرته. لم ينبس هذا الشيخ بكلمة واحدة؛ مذ رأيته جالساً على رصيف المسجد يبيع السواك، سوى بعض التمتمات التي يروّح بها عن نفسه قليلًا، فالصمت أبلغ.. لكن كلّ الباعة حوله يعلمون ألمه. ما أصعب أن يدير الأبناء ظهورهم لك، فلا تجدهم حين تحتاجهم، وعند بلوغ الشوق لهم مبلغه لا يمكّنوك لا من هذا ولا ذاك.. هذا ما آلت إليه حالته.. تكالبت سطوة الزمن على هذا الشيخ الوقور، ورسمت على وجهه سطور معاناة وضياع، فلم ترحم انكساره ولا شيخوخته، وكان جحود فلذات الأكباد هو الطعنة التي أصابته في مقتل، فاختلطت الحاجة والشوق والقهر، وغرزت الألم المتدفق نزفاً في روحه. وعقوق.. وقف على نفس الرصيف الذي يجلس عليه الشيخ الوقور؛ طفل شاحب الوجه، لم يتجاوز عمره التسعة أعوام، يبيع الحلوى والمناشف، تلفت انتباهه أبسط الأشياء، وتؤرقه هو الآخر الحاجة، وإن اختلفت الظروف وتفاوت الزمن.. لم يتحدث هو الآخر سوى بعبارة "الله يخليكي اشتري أي حاجة مني". كانت عيناه في تلك اللحظة تسترقان النظر إلى الرصيف المقابل، إنه هناك.. ربما كان الرجل على ذاك الرصيف والده، ذاك العاق الذي ألقى على كاهل ابنه الطفل حملاً تجاوز أوان العمر، وبراءة مهدرة سحقت على أعتاب عقوق من نوع آخر. مرصد.. قضية مبادلة البر بالجحود، والرعاية بالتسلط.. عقوق ورحمة غائبة.. أين دورنا منها؟! [email protected]