تستيقظ قبل الفجر وقبل مولد النور كحلم امتد عبر سنوات طويلة .. حلم سكن وجوه المارة وأصوات الرواة . أول من تدب الحياة في أوردته قبل أغصان الشجر وطيور الوادي . تعجن ما جهزته من طحين وتوقد تنورها البارد وهي تردد تراتيل الفجر وتسابيح الحياة . في زمن الفقد وعندما يبتعد عنك كل الذين كنت تركن إليهم وتظنهم الركن الشديد .. حتى ظلك يصبح هزيلا لا يكترث بتحرك الضوء . وحدها ظلت تجابه عواصف الرحيل في بيت رحل عائلة مبكرا وخلفه خمسة قلوب تنبض ، أفواه مكممة ، وشفاه بلا ضحكة ناصعة ومستقبل يتكون كمولود لم يكتمل . تجلس إلى جوار تنورها الذي عرف كل حكاياتها المغمسة بعرق الأيام والمشاوير وألهمته معنى حرارة الوحدة وصمت الضيم .. تنتظر اشتعال عيدان الحطب اليابسة لتلصق على وجهه عشر خبزات ظلت كما هي لم تزد واحدة . وما أن يصدح الأذان في الأرجاء وتنتهي من صلاتها ودعاء توكلها حتى تعصب على ظهرها ربطة الصبر وتحمل سلتها وخبزاتها العشر تجتاز الدروب كطائر طاف به العمر وأنهكه السفر . تمر بذات الطريق الذي حفظت حجارته ورائحة ترابه وذكرياته .. لا يخفف من عبئها سوى ذكريات الأبناء الذين بزغ ريشهم باكرا ورحلوا حيث يرحل الجميع . من يعبر بالسوق الجديد يجدها في نفس المكان برغم التطور الذي أحدثته الأيام حولها لتظل صامته . كل من حولها ينادي إلا هي فوق رصيف محشور بأقدام العابرين تضع يدها فوق خدها وكأنها تدافع شوقها لمن رحل . عشر خبزات متقنة الصنع كان الناس يتهافت عليها لا ينقص منها سوى البعض . مسكينة ربما غاب عنها أنه زمن الآلات وعولمة الخبز . ربت أبنائها من بيع الخبز ولم تنكسر لأنها تعلمت من مواسم العطش كفاح السنبلة .. أرادت أن تصنع منهم قوة لها وجدارا تحتمي به عندما ينحني ظهرها . ولكنها على موعد مع السكون وتعاقب الشوق .. وجدت في تنورها والقمح الذي تطحنه سلوة لملوحة صدرها حتى عندما يتقاطر عليها أبنائها عند انتهاء المواسم كمطر الصيف تمر فرحتها سريعا لأن الوقت لا يقف ، لا يكترث ببحة كلماتها ومحاولاتها لترتيب شوقها المختبئ في تجاويف صدرها فيرحل صغارها نحو أعشاش جامدة . رفضت كل مغريات الحياة واكتفت بصحبة تنورها وذكرياتها المنحوتة تحت جلدها وبرصيف احتمل جسدها المثقل ..