الصحراء رمز النقاء والطهر. الصحراء بمساحتها الشاسعة وفضائها الرحيب ترمز إلى الحرية والتأمل رغم قسوة حياتها وشظف معيشتها إلا أنك حين تجلس على كثبانها وتتأمل طبيعتها تمتلئ روحك بالنقاء والسكينة والهدوء. والروائي عبدالحفيظ الشمري في روايته «غميس الجوع» الصادرة من دار كنوز الأدبية وبعد روايتيه «فيضة الرعد»، و"جرف الخفايا" اللتين رصدتا تحولت القرية والمدينة، يسلط مجهر سرده على تحولات الصحراء بلغة ترثي الصحراء ويتوغل في مسروده في تغيرات المكان الصحراوي وتحولاته في تدنيس هذا المكان الذي يمثل الطهر والنقاء والبراءة. «غميس الجوع» تصور مدى تأثير النفط واكتشافه في شبه الجزيرة العربية، وهو لا يذكر ذلك مباشرة أو يشير إليه.. فالرواية ترفع أصابع الاتهام نحو المدينة التي انجرف أهل الصحراء خلف مغرياتها ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا الحماد المكان الرمز للطهر والنقاء وجعلوه مكانًا مدمرًا مستباحًا. الشخصية الرئيسة في الرواية وهي الراعي «عتيق معقول الدهيني»، الذي تدور حوله رحى الرواية؛ هذا الراعي الذي يقف في وجه المتغيرات يقف ندًا لكفيله «أبي علياء» والذي يعيش تحت سلطته الكثير من الرعاة الذين لا يفضلون العيش والحياة مغايرًا موقفهم الموقف الدهيني الذي يمتد من سلالة استعبدها «أبو علياء» لكن الدهيني الذي يصرعه الجني «سراح» بين فترة وأخرى له حياته الخاصة، وله أفكاره التي يحتار فيها منْ حوله يدمى قلبه من أجل الصحراء والتحول الذي أصابها: «منذ أن سحلنا الصحراء بأقدامنا العارية والمنتعلة، ومنذ أن ابتعنا براءتها بقليل من رتوش الحياة وموبقاتها، وعرضناها بضاعة مباعة لم تقبض أثمانها.. حتى ان من بيننا من قايض عنفوانها وسحرها الغامض العنيد بعلب الكولا الباردة ولفائف الوجبات المصنعة منذ أعوام، وأمواس الحلاقة والسجائر وكريمات القبح».11 «غميس الجوع» رواية تتكون من تسعة أجزاء، بعناوين تشير إلى التلاشي والنبوءة المستقبلية، فالتلاشي مفردة تكررت ثلاث مرات، تدعمها تلك العناوين ذات الإيحاء المعاضد للتحول والغياب مثل: «الرمل ممسوس هالك»، و»حول الآبار المطمورة عطش يسوغ ذاته» و»كثبان الحماد المغدورة تنبئ أهلها بهلاك وشيك». فهذه العناوين تحمل في طياتها البؤس والهلاك والتلاشي، إن استثنينا الجزء السادس «جحش رمل الحماد يهيم بغزالة المدن». الحماد رمز النقاء تتحول وتصبح وكرًا لقطاع الطرق والفقر المدقع والعطش، وحتى الحيوانات الضارية والسباع قُضي عليها بسبب أبناء الذوات.. وربما تشير الرواية إلى الصراع الخفي بين الصحراء والمدينة التي ابتلعت أهل الصحراء بوسائلها المغرية وسهولة عيشها بعكس الصحراء ذات الحياة القاسية والشاقة.. كل ذلك يراه الدهيني فيؤلم قلبه المحزون المتفتت حسرة على هذا المكان الذي غدت أرضه مهوى للتدريب العسكري لجهة معينة، وتحول هذا المكان الجميل والنقي والطاهر إلى موقع لبيع السلاح وتجارة المخدرات والحشيش: «لعنة مني عليهم.. هؤلاء الذين يستغلون الصحراء لأعمال مشبوهة، ومحطات مريب، وأولئك الذين يؤذون الرمل ويلوثون بأحذيتهم أعماقه تمامًا...»61 . «جميعهم ملاعين وخبثاء.. سيعبثون بكل شيء في الفلاة، فلن تصحو الأرض وتعود إلى رشدها إلا بعد أن يقتلع هذا الرجس الذي يؤذي أهلها، فلعلهم يذهبون إلى أي مكان في الدنيا ويتركون لنا ما بقي من معالم أرضنا.. آه ليتني أموت قبل أن تنهض هذه الفتن التي تطل برأسها علينا». 60 -61. فالصحراء أصبحت مستباحة للعهر والدنس، فلم تغدُ وجهًا بريئًا نقيًا؛ بل وجهًا عبث في ملامحه الزمن بوحوشه وقسوته.. حتى النقوش الأثرية انتهك حقها وجمالها وخطوطها التي ترتبط بماضي الحماد وثقافته، وهي التي استمرت دون المساس بها زمنا نالها ما نالته الحماد: «كيف يظن هؤلاء أننا سنعبد نقشًا ما، أو نسجد للوحة لا تربطنا بها إلا جماليات لغة وخطوط تعيد للإنسانية بعض توهجها فينا.. مصائبنا ستكون على أيدي هؤلاء..» 74. تبدلت قيم الصحراء تبدلت قيم الإنسان فيها وصارت مغتصبة، فالإنسان لم تعد له قيمته فحينما يموت أحد أتباع رجال التاجر «المدوخ» يُدفن دون مراعاة للآداب الإسلامية والأعراف والتقاليد فيدفن كما تدفن الكلاب.. وهذا الدفن هو إهانة لتراب الصحراء التي ظلت لسنوات غارقة في القدم تمثل رمزًا للوفاء أصبحت لا يراعى للإنسان قيمة ولم يعد ترابها وفيًا كما كان، وغدت أرضًا لا تراعي القيم والعادات، حتى المطر أحد طقوس الصحراء الجميلة والذي كان محط ترقب وانتظار لم يستطع هذا المطر المتلازم لطقوس الفرح والخصب أن يغسل هذا التجهم والبؤس الذي التصق بالمكان والتصق بوجوه ساكنيه. كما اختفى حب المطر من النفوس بسبب التحول ومجيء الشعير التي تأتي من بلدان أخرى عبر البواخر. الدهيني يمقت المدينة، ويحارب كفيله «أبا علياء» يقف في وجهه، لا يرضخ له كما يرضخ له بقية الرعاة، له أحلامه وأمانيه بالسيادة، يحاول الانتقام من كفيله فيرافقه «أبو علياء» ليعرضه على طبيب في مدينة الحمض بسبب صرعه لعل الطبيب يحجزه، ويخلص أبا علياء من فعل مقاوم لإرادته، لكن سراح الجني الذي يصرع الدهيني يهجره طالما هو موجود في المدينة، لتستمر المواجهة والمقاومة. يحاول الدهيني الانتقام من «أبي علياء» فيقوم بالانتقام بالفعل الرمز وهو اللقاء السري ب «عذبة» الزوجة الثالثة لأبي علياء، وحينما نبحث في الرواية عن الشخصيات الأنثوية لا نجد سوى عذبة التي يترك لها الراوي مساحة لتعبر عما يعتريها من ألم وقسوة المدينة حينما باعها أبوها لأبي علياء. هذه اللحظات الحميمية هي فعل يرمز إلى الانتقام من الكفيل من خلال اقتحام مخدع زوجته، وكأنما الدهيني لم يحقق نصرًا وانتقم من كفيله من خلال امتطاء سريره، بل هو أيضًا انتقام من المدينة التي تسببت في فعل التلاشي للصحراء. وربما هذه الجزئية تشير إلى سطوة وجبروت المدينة على أهل الصحراء، فحتى الدهيني حينما بات في المدينة انساق خلف غريزته التي كبتت ولم تستطع محاولات أبو عبدالله فك طلاسمها، فقد ظل زمنًا بعيدًا عن عالم الأنثى. فهل أرادت الرواية من خلال هذه الجزئية إلى جموح المدينة وقدرتها على التغيير في معالم الصحراء؟ رواية «غميس الجوع» رواية ترثي الحماد/ الصحراء. تشير إلى أن المكان بطقوسه وعاداته وتقاليده وطرق معيشته وخيامه ستندثر.. وما موت الدهيني غيلة بهذه الحالة المفزعة بعد غضب الريح الغربي ورحيل الحكيم «أبو الحافية»، ورحيل حالم بن حكيم إلا رمزًا لتلاشي الصحراء وجمالها وطقوسها الأسطورية! ---------- [email protected]