عبدالحفيظ الشمري : قاص وروائي سعودي، يتحاشى أن يعطر عرق جبينه بمسك الشعر، يتمنى أن ينسى نفسه حتى يجد كتاباته في ذاكرة المتلقي والحضور، وقد يؤشر النضج الذي ارتقت اليه تجربة القاص والروائي الشمري علامة مهمة تؤكد قدرة المبدع السعودي على حالتين، الاولى تواصله مع مشروعه الابداعي برغم وظيفته الصحفية مهنة المتاعب، والثانية رهانه المكابر الدائم على اعادة صياغة الحياة بكل ماتحتويه من جماليات.. استثمرت صدور روايته الجديدة و الرابعة « القانوط « عبر « البلاد الثقافية « في هذا الحوار: *لو طلبت منك أن تقدم نفسك لقراء « البلاد الثقافية»، فماذا تقول؟ ** لا أود أن أقدم ذاتي لكم على نحو ما قدمه المتنبي لأعوان سيف الدولة الحمداني.. أنا، وأنا.. إنما للبلاد المكان والصحيفة مكنون جميل لكاتب وقاص وروائي يبحث عن إجابات جمة لسؤال واحد ملحاح: أين نحن من العالم الآن؟! ففي هذا الخضم تذهب التجربة، وتعود حول السرد الذي أعشقه منذ عقود ثلاثة، ولا أزال أسيراً في جذله الآسر. *من أين استقطعت أنفاسك القصصية والروائية؟ **من الحكاية الأولى لمعاندة الجبل لأهله، والسهول لقاطنيها.. فبين كل شاردة وواردة من الحكاية وجدت حقيقية العالم حولي، فلا نحن بحكايتنا مجالدون حتى النهاية، ولا نحن على وفاق مع «كان» لننسخ كل ما لا تريده الذائقة. بقيت تجربتي القصصية والروائية محملة على ثلاث مفاصل هي القرية وما فيها من هموم دفينة، والمدينة وما تحمله من شره وأضواء وشسعة بيد لامعة، لا فأل فيها بقرب الشفاء من أسقامنا المستفحلة، وثالث الأثافي كما تقول العرب هو «عالم الصحراء» الذي صنع لتجاربنا خيال ظل لم نشأ أن نحركه كما ينبغي.. عذرت الروائي الفذ عبدالعزيز مشري يرحمه الله حينما كتب عن قريته، وعبدالرحمن منيف، وتركي الحمد، ورجاء عالم حينما كتبوا عن مدنهم، ولم أشأ أن أنغص على إبراهيم الكوني دهشته في الصحراء حينما كتب عنها باستفاضة هائلة.. ففي هذا الثلوث تجلت تجربتي السردية وفضت بما ترى من رؤى أحسبها مقاربة صادقة، وجادة، والرأي الحقيقي هو للقارئ وذائقته لكي يفرز ما أكتب. *كيف يكتب عبدالحفيظ الشمري رواية ناضجة؟ **في سؤالك عن كيفية ما أكتبه لا يخلو من استفهام قلق، فإن كنت مع تجربتي وتشير إلى نضجها فذاك رأيك، وللقارئ وذائقة التلقي حق في قبول أو رد ما نريد، فليس بوسعي أن أكتب وأقول أن هذه رواية ناضجة، وتلك كتبتها وهي غير ذلك.. فمجمل أعمالي كتبتها عن قناعة، وجهد مضاعف، وعكفت على كل شاردة وواردة فيها، ولم أكن يوما طالب شهرة أو مجد.. فقد أخذت مني ثلاث روايات (فيضة الرعد، جرف الخفايا، غميس الجوع) عشرة أعوام بالتمام والكمال ولم أشأ أن أسهب ليقال عني روائي من أي طراز، أو أنني أفضل من هذا، وأجمل سرد من ذاك، فلي تجربتي الخاصة، ولذائقة القارئ الحكم على هذه التجربة، أما فيما يتعلق بروايتي الأخيرة «القانوط» فإنني لا أزال أنتظر رأي القارئ فيها رغم أنني لمست بوادر رضا، قد أستمد منه رغبة أخرى في كتابة عمل جديد. *وكيف جاءت فكرة رواية « القانوط «.. وما هو تفسيرك لحالته في ما يحمله من شخوص متناقضة في هذا الزمن؟ **روايتي «القانوط» لا أود أن اشرح فحواها كثيراً، فمن كانت لديه حتما سيقرؤها، وهي ليست ألغازاً، أو خيالا مجنحاً، إنما هي عالم سرد حكائي يحمل دلالات وإسقاطات منتقاة بعناية لتلاءم الأحداث، ولمن لم يعثر عليها ولا أدعي أنها نفدت من الأسواق والرفوف كما يتظاهر البعض في أعمالهم، إنما لقصر اتصال بيننا، فأنا على استعداد لأن أبعثها إليه في أي مكان لكي يقرأها إن كان لديه رغبة. أما تفسيري للعمل فقد لا يكون مقبولاً مادمت كتبته كاملاً غير منقوص، فيبقى أن أشير إلى أن بطل الرواية «القانوط» شخصية فريدة جداً، تستحق التدوين، وهو بلفظه العربي مغاير لما عرف عن «القانوط» من قنوط إنما هي كلمة قمت بنحتها من اللغة، وسككت من خلالها مصطلحاً خاصاً يتماشى مع معترك الأحداث.. سيجده القارئ في ثنايا العمل إن كان جادا في القراءة. *القانوط الكائن والمكحول المكان تم اصطادهم فنياً وأدبيا هذه مسميات حانقة ومفعمة في الراوية... ما هي أسباب ودلالات هذا الاختيار؟ **أسباب ودلالات هذا الاختيار للقانوط ممثلاً لوجه الحياة البشرية المخيف.. هذا الذي ينمو بيننا بشكل عجيب، فلا نستطيع أن نجادله بأي أمر من أمور حياتنا، فهو الذي يشعرنا دائما بأنه على حق أبلق، ومن سواه على باطل أمحق، والمكحول في روايتي «القانوط» حاضن مكاني يحمل في تضاعيفه إشارات كثيرة لهياج عاطفي راعف، وجدل دلالي لما ستؤول عليه تحولات الحياة من مدينة عصرية مضيئة، إلى كهوف وأقبية معتمة تشعلها أضواء الهواجس والتيه. *القانوطية والمكحولية عنصران متداخلان بفوضوية.. مما جعل أحداث الراوية لا تستقيم بالرؤية الواضحة.. بماذا تفسر ذلك؟ ** في هذا السؤال فرضية لا أساس لها.. فالمكحولية ليست في وارد أن تكون مصطلحاً قائماً بذاته، لأنها تومئ للمكان باعتباره حاضناً للأحداث والشخوص، هذا أولا، أما إن أردت أخي السائل أن تستقصي احتمالات مصطلح «القانوطية» فأنا على استعداد أن أجادلك فيه هنا أو في أي مكان وفي أي زمان، لكن ليس هناك علاقة بين مصطلح «القانوطية» المعد في الرواية بعناية، وبين مكانية «المكحول» فليس هناك ما يبعث حسب ما أودعته في السياق من أن هناك احتمالا ولو بسيطا عمَّا أومأت إليه بأنه غير واضح.. فالرواية سيدي الكريم تحتاج إلى مزيد من القراءة المتأنية. *عادة ما يكون هناك تجانس في النص السردي بين الرؤية والبناء (بناء حداثي + رؤية انتهاكية للبنى الذهنية) ما هي الرؤى والبنى التي شكلت عوالمك في رواية « القانوط «، طول فترة كتابتها؟ **البناء الحدثي أعرفه جيداً وأتعامل معه كثيرا من اجل أن تتنامى الحكاية في مدينة المكحول على نحو مناسب يحقق الهدف، ويكسب الذائقة، فتراكمات الألم الإنساني وضياع الهدى، وغياب الضمير هو أبرز ما شغل البطل الآخر «سعد الحبي» ليجعله يثور على الطاغية، ويسجل شرف الخروج والتمرد على ناموس القانوطية حتى وإن دفع حياته ثمناً لمثل هذه المغامرة الأليمة.. أما الرؤية «الإنتهاكية» فلم أتمكن من معرفتها أو الاستدلال على كنهها، إنما الرؤى استقصائية لحالة الألم، والبنى جمع بنية جاء موسوماً بروي واحد هو: «كيف الخلاص يا سادة البيد وعبيد المدن من القانوط وقانوطيته المقيتة؟!» وهذا ما ردده سعد الحبي في كل منزلق خطير أو صدام مع القانوطية ومدبر أمرها. *ما الجديد الذي قدمته للقارئ السعودي خاصة، والقارئ العربي عامة في روائيتك الجديدة « القانوط « بين جادّات القدامة والحداثة؟ ** فعلت سيدي الكريم أسبابا كثيرة لتكوين خطاب سردي أزعم أنه خاص بحالتي، لا أن أكون في جوقة ما من الجوقات التي تطبل لفعلها، أو هذيانها، فالخروج للقارئ بتجربة «القانوط» الروائية أنتظر أن يكون الرد حاذقاً كما تتساوق الأحداث، وكما يستفيض الشخوص في همومهم، وعنائهم على نحو «العذراء» التي جاء اسمها غريباً ومشاكساً، وكذلك الفنان التشكيلي « سراي القايلة» وهجرته شبه الأبدية، وفرج المسيار برحيله المفاجئ جراء المرض الذي طالما تشدق فيه أهل المكحول أنهم قضوا على كل الأوبئة لكن الداء (الوبائي B) قضى على كل تلك الهرطقات. *ما هي نظرية اختيارك للسرد الروائي التي ضمتها الرواية ؟ **لم يدر بخلدي أن أضع تصوراً نقديا استقرائيا حاداً لمنعرجات الكتابة السردية في روايتي «القانوط».. فليس من الوارد أن استجلب هذه الأفعال النظرية نحو أي منجز، فقد وجدت أنه من المناسب أن أقدم شهادة عصرية على عمق الخلاف بين أهل «المكحول» وشخصياته النافذة والمتنفذة في بعض مشاهده الحياتية، فكانت المكاشفة الحادة بين الشخوص والبطل هي المحرك الرئيس. *تمارس الكتابة السردية (رواية / قصة قصيرة) أيهما الأقرب الذي تجد نفسك فيه؟ **القصة القصيرة هي الفن الشاق، فحينما يتقن الكاتب أدواته في هذا الفن حتماً سيكون في موازاة تقديم عمل روائي نابه، وهذه بديهة عامة، أما فيما يتعلق بتجربتي فإنني لا زلت أصر على أن القصة القصيرة هي بمثابة سلم نرتقي من خلاله نحو المكان العالي لمشهدية الكتابة الروائية، فكلاهما قريبتان من ذاتي. *شاركت في العديد من الأمسيات القصصية.. فهل أنت منحاز لها؟ولماذا؟ **حينما يعرفك المتلقي بأنك كاتب قصة وتدعى إلى محفل ثقافي حتماً فإنك ستعرض بضاعتك السردية أمام الحضور، فلا شيء غير القصة يمكن أن تقوله لمن تجشم عناء الوصول إلى مقر تلك المناسبات، ولا أخفيك أيضاً أنني شاركت في محاضرات حول الرواية، والكتابة للطفل، ويشغلني الهم اليومي للكتابة من خلال مقالاتي الأسبوعية الثلاث: «مقاربة، مدائن، وبين قولين» في صحيفة الجزيرة ومجلتها الثقافية، حيث أسعى إلى تقديم ما بوسعي خدمة للمشهد الذي أنتمي إليه. *أصدرت مجموعاتك القصصية « الكادحون، دفائن الاوهن، تهرأت حبالها، ضجر اليباس منذ عام 1992الى 2000م ثم شدة رحالك الى كتابة الرواية منذ 2001الى 2009م.. هل القصة القصيرة عند الشمري انقطع نفسها ولم تعد بارزة في تجربتك الأدبية؟ **لا.. أبدا.. لم ينقط نفسها ولله الحمد، فهي لا زالت عفية فبعد تجارب القص في خمس مجموعات، ذكرت مشكوراً في سؤالك أربع منها، وأضيف مجموعة «أبي والقوافل» فقد خرجت للقارئ بتجربة أربع روايات سبق ذكرها، ولم انصرف عن القصة القصيرة، إذ صدرت لي الآن مجموعتين قصصيتين هما: «صباحات ذابلة» و «ضفاف الصحو» والأخيرة ذات منحى قصصي مكثف يشار إليه الآن بالقصص القصيرة جداً. *بعد هذه التجربة الطويلة مع القصة القصيرة والرواية..هل تفكر في كتابة الشعر؟ **لا.. معاذ الله أن أفعل ذلك، فنحن لا نزال في آثار جناية المتنبي على البشرية ومن تبعه بسوء حتى الآن من أصحاب التجارب الغائمة، والمتمطلبة، وذات المديح المغالي.. فأنا هنا لا أعمم وأقول جناية الشعر كما سلف.. إنما أقول بعض الشعر، وتجارب بعض الشعراء الذين لم يخدموا التجربة الشعرية، ولم يقدموا للذائقة ما يفيد، ولم يصنعوا للذاكرة ما يحفظ للمكان والزمان هويته على نحو ما اختطه فني الرواية والقصة، فالشعر بات إما عاطفيا جياشا وحالما، أو مرتزقا، أو طالب شهرة، أو باحثا بهوس عن ملايين الريادة الفضائية هنا وهناك. *أمامك مجموعة من الأسماء، هل من شهادة عابرة ؟ - عبدالله الغذامي = ندرك معاً - نحن وأنت - أستاذنا - مدى ريادة الرواية، فنحن على يقين أن هذا الفن لن يخذلك كما خذلتك بعض تجارب الشعر الحر (أقول البعض وليس الكل) لكي لا يغضب أحد. - زينب حفني = روائية أثبتت باقتدار أن المكان والزمان في الرواية ليس كله طهرا، ونقاء كما يزعم البعض. - عبده خال. = عبده خال يحيرني كثيراً فإن قابلته وجدته معك، وإن تناءيت عنه ألفيته في سديم بعيد. - إبراهيم التركي. = للدكتور إبراهيم التركي أقول دائما أننا في «المجلة الثقافية» مرآة لما يبدعه كتابها، والمنتمون لها.. فلا أقرب من وارد «غُزَيَّة» وابنها برشد طبعاً. - محمد المزيني = الروائي محمد المزيني و(إكليل الخلاص) و(ضرب الرمل) (نكهة أنثى) حالة روائية مكتملة النمو.. رغم افتقادها للضوء.. - محمد العباس. = تبرم الناقد العباس بات عاماً، وسخطه مشاع للجميع، ويأسه من مشهدنا الإبداعي واضح.. وكل هذا غير مبرر أبا عبدالله.. - سمر المقرن = سمر المقرن بعد رواية أو روايتين سيقول لها القارئ كلمته التي لا تقبل الجدل. - حسن الشيخ = مبدع جميل لكنه بعد «اختفاء قدوسه» يحاول الخروج من عزلته. - رجاء الصانع = جهابذة النقد لا زالوا في شوق إلى حكايتك القادمة!!