حين يفتح أي فنان سطور مسيرته، غالبًًا ما يشير إلى حدث بعينه، أو توقيت محدد يشير إلى بداياته التي حفزته للدخول إلى عالم التشكيل الفسيح، وفي هذا السياق تشير الفنانة التشكيلية دليلة عويضة إلى أنها فنانة بالفطرة كانت تحركها الغريزة نحو الأقلام الملونة، كما أن التأمل كان ديدنها.. وفوق هذه الغريزة الفطرية، وديدن التأمل؛ إلا أن دليلة تشير إلى طفلة صغيرة اسمها «يارا» ذات الأحد عشر ربيعًا قد حركت كل بواعث الألم والأمل والنور إلى قلبها الذي وصفته ب «الباهت».. هذه الطفلة حركت ريشة عويضة، وأهدتها الرؤية الفنية التي تجلت في أعمالها، فأطلقت عليها مسمى «الفراشة الملونة»، مبينة أنها: «أينما حلت تناثر منها الفرح كألوان قوس قزح»، داعية الله أن يحفظها لوالديها. لهفة الألوان وتتابع دليلة حديثها راسمة خطوات مسيرتها الفنية بقولها: رحلتي بدأت في السنوات الخمس الأولى من عمري؛ حيث كان الوالد - رحمة الله عليه - المشجع الأول لأناملي الصغيرة، كنت شديدة الالتصاق به، وكان هو يقرأ لهفة الألوان والخطوط في عيوني.. دائمًا يمدني بحبه وتشجيعه قبل الألوان وأوراق الكانسون، كنت أرسم على أي شيء وأي سطح نظيف؛ حتى أوراق صابون (لوكس) لم تفلت من قلمي الرصاص إذا جفت أوراق الدفاتر والكراسات. في البداية كانت لعبتي مع الريشة والألوان الزيتية، سبقتها تجارب عدة مع القلم الرصاص، عشقت معه البورتريه، وأول بورتريه رسمته بالرصاص عندما كنت في الصف السادس الابتدائي، تلتها لوحة زيتية للملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه -، ومع تكرار التجارب الأولى للمدرسة الواقعية تعمقت في رسم الطبيعة والأبواب الصامتة وشقوق الجدران في البيوت القديمة التي دومًا ما يغلبني الحنين للتأمل فيها، وبعد أن هجرت ريشتي سنوات عدة رجعت بقلمي الرصاص وأناملي ترتجف؛ لكن بعد البورتريه الأول آمنت بأن الموهبة لا تموت، ثم بهرتني التكعيبية في لوحات الفنانين، ودرست فيزيائها الذكية، عشقت بعدها غموض السريالية، فتذكرت لوحتي الأولى التي كنت أحاول أن أكون فيها سريالية، وعرضتها على معلمتي في المرحلة المتوسطة، حيث كانت فراشة الأمل في داخلي ما زالت في شرنقتها تنمو، فأحببت السريالية ومزجتها بالمدرسة التعبيرية، وقد تجد ذلك جليًا في بعض لوحاتي، والآن ما زلت أتساءل هل بلغت الفراشة في داخلي مبلغ باقي فراشات النور أم ما زالت حورية في الشرنقة؟ اللغة الخفية وتكشف دليلة عن فلسفتها من وراء الرسم ومشاركتها السابقة قائلة: أحيانًا يكون الرسم هو اللغة الخفية التي يتحدث بها الفنان إذا عجز لسانه عن التعبير.. والفنان لسان حاله الريشة، في الفرح يرسم، وفي الحزن يرسم، حتى وهو صامت يرسم.. قد تكون للصعاب أيدي تكمم جميع الأفواه ما عدا ريشة الفنان، ومن هذا المنطلق قد يناقش الفنان قضية حساسة بلغته ويعجز الناس عن فضح أسراره؛ لذلك قيل في الفن: «إنه ما يفهمه الفنان ويعجز عن تفسيره الناس».. وقد شاركت في العديد من المعارض المحلية، وحصلت فيها على عدة جوائز؛ لكن مشاركتي في مسابقة السفير كانت هي الأبرز، لعلي لم أفز بأي جائزة فيها؛ لكن يكفيني شرف المشاركة في هذه المسابقة.. إضاءة شموع الأمل لوحات دليلة كانت حاضرة في مشهد السيول التي اجتاحت مدينة جدة في العام السابق، فعن دوافعها للمشاركة بإبداعها في تجسيد تلك الحادثة الكارثية تقول دليلة: الفنان شأنه شأن الصحفي، شأن المحامي، شأن الشخص البارز في المجتمع؛ له رسالة، ويتمتع بصلاحيات التصريح بصوت عالٍ، وله مؤيدوه كل حسب طريقته؛ فالصحفي يتحدث بالقلم، والمحامي بلسانه، والفنان ريشته تتحدث عن خلجات نفسه والقضايا التي يناضل بشأنها.. وكارثة جدة كانت وما زالت تحكي عن قضية مهمة أظهرت إهمالنا أمام العالم كدول نامية ما زالت تجري وراء التحضر بطريقة خاطئة، وكوني فنانة تشكيلية فأنا مؤمنة جدًّا بأن الفن التشكيلي لا يقل شأنًا عن بقية السلطات في القوة وطريقة الطرح، ولهذا فسوف أرسم وأرسم حتى تضيء شموع الأمل في القلوب المظلمة؛ لأنه مهما بلغت الظلمة طول النفق سيكون النور في نهايته. عرض على الإنترنت أما عن أسباب اتجاه الفنانين لعرض لوحاتهم على الإنترنت فتلخصه عويضة في قولها: هناك العديد من الفنانين قد تعزلهم الظروف السياسية والخاصة عن المشاركة في المعارض وتسلم الجوائز، فيبقى حلم المشاركة معلقًا بالمواقع الإلكترونية التي تحقق لهم الانتشار وعرض رؤيتهم الفنية وثقافتهم التي هي انعكاس لواقعهم، وبيئاته المختلفة، كما أن الإنترنت مجال خصب لاستقاء الأفكار، واكتساب الخبرات من خلال الاطلاع على تجارب الفنانين ذوي الخبرات السابقة. دليلة حددت ما ينقص الفنانة التشكيلية بقولها: ينقصها الإيمان بها كعضو فعال في المجتمع، وأنها تملك من الجمال الروحي والشفافية ما تفتقر إليه الكثيرات من بنات جنسها.. الفنانة التشكيلية السعودية بالذات ينقصها الأساس السليم والكثير من التشجيع؛ فالإحباط والكبت يقتلان الإرادة في روحها، ويحرقان كل بارقة أمل تنمو وليدة على جناحيها الرقيقتين، وكل هذه العقبات في طريقها تولد داخلها الخوف، وتزعزع ثقتها بنفسها، فتعتقد خطأ أن الفن التشكيلي صورة براقة ولكن بلا قيمة، وإن خاضت تجربته بتلك الروح السقيمة تصبح فنانة فارغة بلا أساس، لا يملؤها إلا الزيف.. تفوق مبرر كذلك ترجع عويضة سبب تفوق الفنان على الفنانة إلى أن: الفنان رجل في بداية الأمر، وهو واجهة مجتمعه، لهذا كان ظهوره كفنان بارز جدًّا، وبالنسبة للمرأة والفنانة السعودية تحديدًا فهي أم في بادئ الأمر، وهي قلب العائلة النابض، وكما أسلفت سابقا الفنانة ينقصها التشجيع والبناء السليم، زد على ذلك أن المجتمع يحتاج إلى الكثير والكثير من الوعي نحو تقبل كلمة «فنانة تشكيلية»! وضع مشين ولا تنفي دليلة ما يشاع من أن هناك يرسم لبعض الفنانات، بل تؤكد ذلك بقولها: نعم للأسف هناك من تستغل مسمى الفن التشكيلي كواجهة للظهور في المجتمع فيكون شغلها الشاغل هو التواجد الإعلامي ولو كان بشكل مشين. متى نواجههم؟ متى نحد من انسياقهم اللا مرغوب فيه وتطبيل الغير لهم... لا أدري؟ لكني مع ذلك لا بد أن أشير إلى أن الوسط الفني السعودي يزخر بفنانات راقيات جدًّا من بينهن الفنانة الرائدة فوزية عبداللطيف، والفنانة زهرة أبو علي على سبيل المثال لا الحصر والتقييد. وبرغم عدم نفيها لهذه الظاهرة؛ فإن دليلة تنفي ما يشاع أيضًا من تهم لصالات العرض باستغلال الفنانات؛ قائلة: إن فكرة الاستغلال غير موجودة.. لكن حركة الفن التشكيلي يلزمها الكثير من النمو والتطور من ناحية الفنان ومن المتلقي حتى يتم التعاطي مع هذه الصالات بكل سلاسة.. مواصلة حديثها بالكشف عمّا يزعجها في الوسط التشكيلي في ثنايا قولها: التذوق الفني والإحساس باللوحة مفقود، هناك بعض اللوحات الفنية تقوم على تكنيك غاية في التعقيد كالتشهير والتنقيط بالأقلام ومع ذلك لوحاتهم ليست مفهومة وغير مقدرة، والتذوق الفني يحتاج إلى ثقافة خاصة هي فعلًا مفقودة في الوطن العربي، وهذا ما يزعج الفنان؛ فالفنان يحتاج إلى التقدير في عين المتذوق. في انتظار اكتمال الفراشة دليلة ختمت حديثها كاشفة عن طموحها وموعد معرضها الشخصي بقولها: أتوق لكي أرفع اسم بلدي عاليًا في مختلف المحافل، كما أتمنى أن يكون للفن التشكيلي في السعودية شأن عظيم، وذلك لن يأتى حتى تهتم المدارس بالتربية الفنية، فالفن التشكيلي هو دليل حضارة الشعوب ورقيها، وهو غذاء يهذّب الروح، ويشعر الإنسان بالرقي.. أما عن معرضي الشخصي المقبل، فعلى الساحة أن تتوقعه عندما تكتمل دورة الفراشة في النمو وتخرج من شرنقتها إلى نور الشمس محملة بما لم يذكر من ألوان الطيف.