أشرت في مقالي السابق إلى ضرورة أن نبتهج ونفرح؛ لكي نستطيع شق طريقنا في دهاليز الحياة الوعرة، التي ترغمنا على الحزن؛ لتذكّرَنا أن الحزن معجون مع طينتنا الأولى.. تلك التي شكلت ملامحنا منذ الأزل؛ لذلك كان له أن يحضر معنا -مختالًا- في معظم التفاصيل، حتى في أكثر اللحظات سعادة وضحكًا.. أعني لحظات العيد بالطبع. وأعتقد أن أولئك الذين فهموا هذه الحقيقة استطاعوا أن يتصالحوا مع الحزن؛ ليحولوا لحظاته إلى «مهرجانات احتفاء مصغرة»... من هنا رأى غيفارا -مثلًا- أن الحزن «يمكن أن يكون وطنًا نسكنه، ونتكلم لغته»، كما صرخ نزار ذات جمال: «وأنا محتاج منذ عصور.. لامرأة تجعلني أحزن.. لامرأة أبكي بين ذراعيها مثل العصفور!!» قبل أشهر معدودة، كان صديقي «فهد»، أو «أبوفيصل»، كما اعتدنا -أنا وحشد المحبين على مناداته- يتنفّس برشاقة بين قلوبنا، يُعلّمنا بتواضع عجيب أبجدية الحياة ببهجة حمامة وخفّة غمامة... لكنه فجأة غاب عنا.. سقط من على صهوة جواد، ليموت فارسًا كما عاش. وليلةَ العيد حين كنت أقلّبُ الأسماء لأرسل معايدتي للأحباب والأصدقاء.. لمحتُ اسم صديقي (فهد الأحمري.. أبوفيصل) على صفحة هاتفي التعيس.. كانت لحظةً غريبة من التردد والقلق.. لحظةً لم أعرف كيف أتعامل معها بصفتي إنسانًا.. لحظةً أكبر بكثير من فهمي لهذا الوجود المؤثث -ألمًا- بالفقد.. والغياب. ترددتُ للحظات.. لم أعلم ماذا أفعل، فكرتُ أن أحذف الرقم من هاتفي سريعًا.. أن أضعه جانبًا وأتراجع عن معايدة الأصدقاء.. أن أهرب.. أن... لكنني استسلمت للذة اللحظة ووجعها.. وأرسلتُ لصديقي: «عيدك بهجة وبركات.. يا فهد كل عام وأنت -ومن تحب- بكل خير يا صديقي..!!» وبعد أيام.. -ويا لسخرية الأيام- جاءتني رسالة رد من هاتف فهد: تهنئني وتسأل الله لي القبول..!! هناك اكتمل لغز الوجع.. واختنق الوجود، كل الوجود من حولي، بعَبرة الغياب..!! أعلم أن كثيرًا منا تصادفه لحظات حيرة وحزن مشابهة، فلا تعلم ماذا تفعل حين تصادف بريدًا إلكترونيًّا لصديق غائب، أو رقمًا لحبيب تنحى عن كل شيء إلا عن شاشة القلب، أو حساب لراحل في تويتر أو الفيس بك أو الأنستغرام.. وظلت صورته مرزوعة هنالك مثل شلال ألم.. «فرعُه ثابت وأصله في السماء»...!! أذكر هنا قصيدة غازي القصيبي حين وجد رقم صديق تُوفي في (دفتر الهاتف)، فوقع في حريتنا ذاتها: هل نبقي الرقمَ أم نشطبه: «وفجأة نذرف دمعتين.. لأننا ندفن من نحب مرتين!!». سقط صديقي فهد -على طريقته- برشاقة، واختفى بهدوء... ليعلّمنا درسًا آخر في الحزن بشرف وسمو.. درسًا اكتملَ بمعايدته التي حطّت على قلبي قبل أيام، «كحمامة نزلتْ لكي تشرب». *** عجبًا سقوطُك كالكرامِ جميلُ عجبًا.. ويحيا خاملٌ وبخيلُ! يا فهدُ.. هذا العمرُ دونك قاتمٌ دربٌ حزينٌ موحِشٌ.. وطويلُ يا فهد هذا الليلُ سمٌ قاتلٌ وسكونُه في العالمينَ عويلُ صادقتُ ألوان الخليقة جُلّها لكنّ مثلكَ في الرجالِ قليلُ