في ليلة الجمعة الرابع والعشرين من شهر رمضان عام 1426ه فجعنا بموت أخي الغالي المهندس محمد بن ناصر الجماح - رحمه الله - عن عمر جاوز السادسة والأربعين، وقد كان ملء السمع والبصر، قل نظيره في الرجال ذكاءً ونبلاً وجوداً. وها أنذا أكتب بعد أيام من غيابه، وأحسب أنه ما زال حياً بيننا، وأنني في موته بين مصدق ومكذب: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بأمالي إلى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي وما ذاك إلا لأنه كان حاضراً بكل خلقه وأريحيته وتوقد ذكائه، وأريد أن أغالط النفس في أمر تحقق وقوعه، وليس لي معه إلا الصبر والاحتساب. فقدناك يا محمد ونحن أهلك الأقربون فأحسسنا أن ركناً من أركاننا تهدم، وأن زلزالاً عظيماً حط في كياننا كله فما أبقى شيئاً منه مكانه. ويوم أن توارد المحبون على المستشفى والقبر والمنزل أدركنا أنك زرعت في قلوب الكثيرين أشجاراً مورقة بالمحبة والمودة والتضحية. وأنك منذ تلك اللحظة التي التحقت بها طالباً في كلية الهندسة بجامعة الملك عبد العزيز مروراً بعملك في وزارة الشؤون البلدية والقروية، وأخيراً في مديرية الشؤون البلدية في الرياض كنت تبني تلك العلاقات المتينة مع زملائك ومحبيك. ويوم أن كنت ألتقي بهم في العزاء أو أسمعهم من خلال الهاتف كانت كلماتي تحتبس في حلقي لأن المعزين هم من يتوقفون عن الكلام، وتحبسهم الدموع عن المواصلة، وهم يرون أننا نحن أهلك لم نأخذ إلا نصيبنا من الحزن على فراقك، وكثيرون منهم يعتزون أنك من علمهم ودربهم على إنجاز الأعمال، وفن التعامل مع الآخرين. يا شقيق الروح الذي فقدته: ماذا أقول فيك أو أكتب عنك وقد كنت تمنحني من التقدير أجله وأكمله، وتنظر إلى أنني الأب والأخ معاً في حال ابتعدنا عن والدنا - حفظه الله - ويرعاه. ماذا اقول وقد حبست دموعي أمام ابي الذي أظهر التجلد أمام المعزين؛ ولكنه في خلوته بكاك حتى أشفقت عليه لو لا يقيني بأنه الصابر المحتسب. ماذا أقول عن أمي التي فجعت بموتك كما لم تفجع أم من قبل وكانت تترقب الأخبار - على مدى شهر كامل - وبعد كل زيارة لك في المستشفى تسألني عنك، وكنت أداري عنها كل خبر يشعرها بخطورة وضعك الصحي، وأفرح إذا تلقيت خبراً يدل على تحسن حالتك وأسارع إلى بشارتها به، حتى إذا كانت الأخبار لا تأتي بخير كنت أقول لها إن وضعك مستقر، وكنت أقرأ في عينيها ما تراه في وجهي من ملامح القلق والحزن الذي لم أقدر على إخفائه. ولا غرابة في هذا الحب الذي حظيت به فلا زلت أتذكر وأنت في قسم التنويم قبل أن تنقل إلى العناية المركزة أنك تلح علي بالخروج إلى حديقة المستشفى لتتمكن من الاتصال بأبيك وأمك وزوجتك وتتصنع القوة والصحة لتخبرهم أنك في صحة وعافية، وأن عليهم ألا يقلقوا فالمرض زائل، والحصان المتعب لابد أن يعود قوياً كما كان، وما ذاك إلا لروح متوثبة عرفتها عنك، وبر بوالديك وأهلك غبطناك عليه، ونرجو الله أن يكون في موازين حسناتك. كم أكبر فيك يا أخي الغالي الذي افتقدته ذلك التعالي على المرض وأنت تعاني على مدى ست سنوات مضت فما سمعت منك ولو مرة واحدة أي لفظة تبث بها ألمك وشكواك، ولم ألمح ولو مظهراً من مظاهر القنوط أو اليأس في عينيك مما حل بك، على العكس من ذلك رأيت فيك الرضا التام بما قدره الله عليك، وكنت أسألك حين آتي إليك أو أتصل بك فترد علي بقولك (حصان) حتى اذا بلغ منك المرض مبلغه تمثلت بقول الشاعر الذي أحببته وأعجبت به: يا أعز النساء جئت حصاناً مثخناً هذه السباق الطويل كسرت ساقه فجن إباءً كيف يعدو ذاك الجواد الأصيل قبضة الأربعين تصهر روحي فأحاسيسي العذارى كهول لم تعد ثم شعلة من حماس سكب الزيت فاستراح الفتيل ماذا أتذكر من إبداعك الشعري بالفصيح والعامي، وأنت الذي أبدعت وشاركت في مناسبات مختلفة لا ليقول الناس إنك الشاعر الذي سبق غيره، ولكن لترضى تلك المشاعر الجميلة والنبيلة التي تحملها بين جنبيك، ولم تكن يوماً لتحتفي بشعرك أو تحتفظ به فضاع أكثره، وقد كنت في الكثير منه مجلياً ورائعاً، وما زلت أتذكر حصولك على المركز الأول في مسابقة النادي الأدبي في مكة قبل ما يزيد على عشرين سنة بقصيدتك التي جاء في بعض أبياتها قولك: يا خادم الحرمين حسبي أن أرى وطني بأثواب السعادة ينعم يا خادم الحرمين ملء قلوبنا حب سيعجز أن يبوح به الفم حب توارثناه عن أجدادنا بعروقنا يجري كما يجري الدم وبعد: فإن من الحق وأنا أكتب عنك رضاً لنفس هزها فقدك، ووفاء لحق أخ ضن الزمان بمثله؛ أن أدعو لكل الأوفياء الذين وقفوا معنا عند رحيلك، وهم لا يقلون عنا إحساساً بالفقد وشعوراً بالفاجعة، وأختم بأبيات للشاعر حسن جاد لعل فيها بعض العزاء حين يقول: محمدٌ ياأعز اسم أردده كأنه اللحن في سمعي وفي خلدي كنا إذا غبت يوماً لا نطيق نوىً واليوم غيبتك الكبرى إلى الأبد فقد الأحبة أقسى ما نكابده من الحياة فيا ويلي من الكبد آمنت بالله والآجال قدرها إذا انتهى العمر لم ينقص ولم يزد وكل حي لورد الموت مرتحل يرحل متى ما يصله رحله يرد اللهم إن رحمتك وسعت كل شيء؛ فهب لأخي رحمة من عندك، وأنزله منازل الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، واجمعنا به في مستقر رحمتك في جنات النعيم.