لأولِّ مرةٍ أجدُ قلمي جافاً حافاً! أشحذ مدادَه وأستجدي خطاه ليحاولَ وصفَ رجلٍ أتهيَّبُ فكرةَ الحديثِ عنه؛ كوني سأظلمه لا شك. بالأمس.. توفي حبيبي والدي! هل أقول إن ذاك الخبرَ كان صاعقةً أحرقت عروقي أو خنجراً موبوءاً دمّرَ فؤادي أو موتاً قبل الموت غصَّ في حلقي ولربما كلها مجتمعة. زفراتٌ ودمعاتٌ ولهيبٌ لا يطفئُه سوى الاسترجاع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى. الحمد لله حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا. لا إله إلا الله العلي العظيم ترطب ألسنتنا وتسقي أفئدتنا؛ وقد كان يرفرف بها لسان والدي حتى في غيبوبته! إن شئتم حدثتكم عن والدي الرجل! وإن شئتم الأب، أو الصديق، أو الحبيب، أو الفقيه، أو المستشار أو القانوني.. كل ذلك كان أبي. أب - والله - ليس ككل الأباء. فريد في صفته وتعامله وخلقه. تربينا في كنفِه الحنونِ على الإيمانِ وحبِّ الصلاة، ربطَنا بها عمودِ الدين، وظلَّتْ هي هاجسَهُ حتى بعد وفاته؛ غفر الله له وشمله برحمته وكرمه؛ فهاهو يُوقِظُ أبناءنا فجرا مرددا الصلاةَ الصلاة الصلاة! فيفزعون إليها - رغمَ تثاقلِهم مسبقا - حباً وكرامةً ووفاءً، ويأتي غيرَ مرةٍ في مناماتِنا يُوصي بالصلاة كما كان ديدَنه من قبلُ. في المستشفى وفي أشدِّ حالاتِه حرجا لم يُقلقْه الألمُ ولم تشغلْه المعاناة.. تدرون بمَ كان يُشغل ؟ بالصلاة فينادي في داخله منادي الصلاة - حساً دون أذان يُسمع - خمسَ مرات في اليوم في أوقاتها الدقيقة، فيطلبُ العفورَ ويصلي، ويُوجِّهُ الحاضرين فردا فردا كلاً باسمه، ويُحدِّث عن عمود الدين التي إذا صلُحتْ صلحَ العمل كله.. وفوق هذا يُشفق على الممرضات فيأمرهن! ويدعو لهن بالهداية، ويسأل من حولَه تبليغَهن الرسالة ونصحهن. آهٍ يا أبي.. لست أنسى مذ طفولتنا تحملك مسئولية إيقاظنا فجرا ذكورا وإناثا ليلحقَ بك الأولون جماعةً ويصليها الآخرون في وقتها.. لا تشتكي ولا تملُّ رغمَ ما تقضيه من وقت في سبيل ذلك. هل تنسى مكةُ يا أبي ما ربيتنا عليه وعودتنا من صيام رمضان فيها، وقضاء إجازة الربيع في أطهر البقاع، إلى أن اشتد عليك الربو الذي تعاني منه من صغرك، فمنعك من مكةَ ثم المدينة وقت الزحام، بسببِ اشتدادِ الأزماتِ عليك أربعَ سنواتٍ متتالية وإدخالِك المستشفى وإلزامك الإفطار الذي جاهدتَه ورفضتَه حتى زارك فضيلةُ شيخِنا محمدُ العثيمين رحمكما الله وأفتى لك بذلك.. وقد كنت كلَّ سنةٍ تحاولُ التحديَ لتصمدَ فتفشل ويغلبك المرض.. حتى سلَّمتَ ففارقتها في المواسم واقتصرت على عمرات متباعدة في أوقات مناسبة. حديثي عن حرصك على هذا الفرض بابٌ لا يقفل.. وهدير بحر لا يهدأ! أنى له الهدوء وأنت محموم تعاني التهابك الرئوي المعتاد وتجاهد لصلاة الجمعة تُحمل إليها حملا لا ترحم فيها نفسك، يتقطع قلبك حزَنا ألا تقوى مخافةً لله وحبا للمساجد وتعلقا فريدا بالصلاة التي هي غذاؤك ودواؤك وهواؤك! إن كانت البقاع تبكي وتشعر فوالله إن مكةوالمدينة لتنوح لفقدك! كيف وقد عمرتَ فيهما بيتين لنا لتقيم فيهما أكثر من إقامتك في بيتك الرئيس في الرياض؛ لتنعم بجوار تلك الأراضي الطاهرة. أبتاه.. أشعر أن أنفاسي تخنقني وأنا أشرع في الكتابة عن خلقك! هل سأقول خلق الصالحين أو سمت الأنبياء؟! لا والله.. لا أغالي إن قلت (كان خلقه القرآن) إي والله! أجدني بحاجة إلى أن أكتب وأكتب؛ غيرَ أن ذاك الوصفَ مروٍ للعطش شافٍ للغلة. الورع والبعد عن الشُبه مَسلكُه، حب الفقراء والمساكين سلوته.. آه أبتاه حديث (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) كان شعار عملك.. كم وكم من الصدقات والقربات اتضحت لنا بعد موتك! كم من أسرة أتى وليها ينتحب في بيتك.. وكنا نحن من نعزيه فيك، لسنا ننسى تلك المرأة المجهولة التي بكت عند الأقدام تنشد أهلك التعزية.. تقول أنا من يُعزى في محمد العساف! بيتي أولادي من لهم بعد الله.. في بيتنا كان لك حضورك وهيبتك مذ طفولتنا، نتسابق حين مقدمك لنقرب لك ما تريد، لم ترفع يدك ولا صوتك لتأديبنا، غاية ما هناك - إن حِدْنا - أن تنظر إلينا من زاوية إحدى عينيك فنكُفّ! سبحانك ربي.. الذي أنزل في نفوسنا هيبتك (بغير خوف) دون أن تُعنِّف أو تضرب! يا لجمال جلساتك الطيبة معنا.. تُلاطفنا وتقص علينا قصص الأولين والآخرين، وتُعبر عن محبتك، وتحتفي بأبنائنا المزعجين، وترغبهم بتوفير ما يشتهون من الحلوى والعصائر، وتتفقد كل واحد منهم، وتحزن لغياب أحدهم، تتمنى دوما لو اجتمع كل أبنائك وأحفادك حولك.. إنها قمة سعادتك. آهٍ أبتاه لتلك الغرفة المسكينة التي يُسمع أنينها من بعد، تنشد من يُسليها ويعزيها بعدك، تستجدي من يحييها لأنها ماتت معك! كنت أنت أنيسها، كل ليلة تستأذن منا حدود التاسعة لتنام، فننام متأخرين ولما تنمْ بعدُ؛ تنشغل بالوضوء والنوافل وقراءة القرآن والذكر، وكلما استيقظ أحدنا جوف الليل أو آخره وجدك قائما على تلك الحال.. متى تنام؟!! لست أدري! هذا حالك مذ عهدناك؛ بل مذ عرفتك والدتي، لا يثنيك عنه دوام ولا مهام! لا نعرف من نومك إلا دقائق وربما ثوان تغفو فيها نهاراً وأنت جالس بيننا، رحمك الله أبي وعوضك راحة في الفردوس الأعلى بصحبة من تحب من الأنبياء والشهداء والصالحين. لم نعرف لك عدوا أبدا، كل الناس اجتمعت على محبتك، يشهد بذلك جموع المصلين الغفيرة والمعزين؛ بل والمشيعين للجنازة! في مسجد النساء صاحت المشرفة عجبا.. (غريب هذا التجمع! يومُ عمل ليس خميسا ولا جمعة ولا حتى اثنين وكل هذه الأعداد؟! كيف اجتمعت؟! والله إن الذي صفَّها لملَك). وأشد منه عند الرجال، وكان الظن أن تلك الألوف لجنائَز مختلفة، فلما شيعوا الجنازة تبعوك، حتى قال لنا أحد الأصدقاء (اعتدت الصلاة والتشييع كل يومين، ووالله ما سبق أن رأيت مثل هذا، وحاولت متابعة الجنازة للقبر فحيل بيني وبينها من كثرة الناس قبل نحو من 40مترا) لا أعجب مما أسمع ولا مما يقوله الناس؛ لأني أعرف أبي جيدا، فريد من نوعه، ليس في عائلتنا مثله بشهادة الجميع، ولا في العالم كله رجل بمكانته. منذ طفولته كان يعرف بين أقرانه بالمطوع، لم يُعهد عنه طيش الشباب ولا غرّة الصبيان، ارتبط بالصلاة ولزم بر والديه وحفظ القرآن وجعله أمام ناظريه لا يحيد عنه في تصرفاته، أولع بطلب العلم وأحب القراءة، فتغرب عن البلاد لطلب العلم والتحق بجامعة دمشق لدراسة القانون (في وقت لا يتعلم فيه أقرانه)، وتعلق بالقراءة والاطلاع في مختلف المجالات، فلا تسأله في مسألة فقه أو أدب أو حديث إلا أجابك عنها! والله لا أبالغ إن قلت: كانت تمر الأيام - في صغرنا - ولا نرى وجهه من إطراقه على الكتب واحدا تلو الآخر، وقد تخفف من ذلك أواخر حياته رحمه الله. وفوق هذا كان ذا ولع بالتقنيات! رجلٌ في مثل سنه وزمنه غريب منه ذاك الحرص ع متابعة الأجهزة وولوج عالمها، فكانت رغبته بالتعلم تشحذ همته لملاحقة صغارنا لتدريبه حتى وصل إلى اقتناء آيباده الخاص وجهاز حاسبه المحمول الذين كانا نافذته التي يتابع فيها كل جديد. كيف تنسى كل تلك البرامج التي حملتها أبي على جهازك الخاص الآي فون للتواصل معنا صوتا وصورة، فكنت تمتعنا بإطلالتك البهية أثناء سفرك أو سفرنا. منك أبي نتعلم كل شيء بلا لغة! سوى لغة العمل صدقك أمانتك سلامة صدرك ورعك نزاهتك كرمك... إلى آخره. معانٍ لم نعرفها ألفاظا إلا على هذه الورقة لم تتحدث يوما عن إحداها، غير أن حياتك وتعاملك غرسا رسائل قوية في قلوبنا مفادها (التربية بالتطبيق لا التلقين). يوما ما قلت لنا قصة للعبرة ساقها على لسانك مدار حديثنا جميعا فحواها : أنك ذهبت مع أقرانك زمان صباك والجوع بحثا عن الكلأ، متعبين مجهدين تتضورون جوعا! فما ظفرتم بشيء سوى ثور تائه! فهمّ أصحابك به، فنهيتهم كونه ملكا لآخرين مخافة لله، فأنفوا من نصحك وعزموا على قتله لينقذوا أنفسهم من الهلاك، ففعلوا وجعلوا لك نصيبا رفضت أكله ثم دفنوا كل أثر.. بعد حين.. مر القوم يسألونك عن ثورهم؟ فنفيت رؤيته خشية الفتنة. بعدها استغفر والدي كثيرا، وقال: والله ما كذبت في حياتي غيرها!! أي معنىً سامٍ تُجسده هذه القصة ؟! لسانك لم نعهد منه إلا الدعاء وجميل اللفظ! لسنا وحدنا من يشهد بذلك، بل شهد به القاصي والداني، فهاهو فضيلة رئيس ديوان المظالم يحكي قصةً لم نسمعها من قبل، وهي أن تحت إدارة والدي فرد يعيبه دينه وخلقه، فطُلب من والدي أن يرفع فيه الأمر، فرفض رحمه الله قال (تلك كلمة لا تمر على قسمي ولا لساني) والله لا أكتبها فيه، فستر عليه. كنت، ولا زلت أعجب من حرصك على النظام وقدرتك على التنظيم! في كل مدينة لك فيها بيت هناك مكتب مليء بالملفات والأوراق.. سبحان من أحصاها.. مرتبة مفهرسة لا تختلط هذه بتلك! هو من يرتبها ويرقمها ويصنفها ويؤرخها، وعند الحاجة يستطيع استخراج ما أراد بيسر! أذكر مرة أن مؤسسة البابطين في إعلان صحفي لها: أعلنت بأن هناك غسالة جديدة لمن يحضر فاتورة لهم من عام كذا (قبل 18سنة من تاريخه) دخل والدي مكتبه فخرج بالورقة خلال دقائق! يسعفه في هذا إعانة الله له بذاكرة قوية مكنته من حفظ كل ذاك الإرث الورقي الذي وثق به جزءا عريضا من حياته رحمه الله. آهٍ أبتاه.. حلمك يعجب منه الحلم! منك تعلمنا أن كل شيء يأتي بالحلم أو التحلم. قدرتك على اختراق قلوبنا وعقولنا بكمال خلقك عجيبة جداً! أسرتنا صغارا وقدتنا كبارا وعلقتنا بك بذكراك بعد وفاتك. في كل موقف.. وكل بقعة.. وفي ذهن كل واحد منا؛ لك أثر.. ذهب؛ غير أن ريحَه باق. إن كانت شهادتنا بك مجروحة فهاهي جموع المصلين والمشيعين والمعزين والبعيدين والقريبين تشهد لك بالخير والبركة.. ألوفهم المؤلفة تنبئ عن مكانتك.. وتحكي قصة حياتك، ولا زلنا - رغم مرور شهر على سكناك الروضة - نسمع من قصص القريبين والبعيدين والغرباء والأجانب معك ما يُضاف لما نعرفه عنك ويزيد إعجابنا بك ويُشعل أيضا ولَهَنا لقُبلاتٍ نطبعها على جبينك التي زانها وسم السجود. أبي الطاهر.. طهارة الباطن والظاهر! لست أعهد عن والدي سوى الطهارة الدائمة فترة صحوته.. وحينا سألناه مرة: هل أنت على وضوء لنناوله المصحف ؟ فقال : أي بنية تعهدتُ نفسي بالوضوء ما لم أنم، علني أمس مصحفا أصلي أو أذكر حديثاً فأكون مستعدا لهذا كلِّه.. ومع ذلك كان يُجدد وضوءه للصلاة (نور على نور). أما الظاهر فوالدي رجل نظيف المظهر حسنُ الهيئة طيبُ الرائحة، لا يُقابل صغيرا ولا كبيرا إلا بثوبه وشماغه وعقاله، لا يتكأ ولا يستلقي حتى عند أهل بيته إلا في مضجعه. كان يأخذ زينته للمساجد ويتعطر ويتطيب احتسابا رغم شدة إصابته بالربو، فجازاه أرحم الراحمين بأن عطره بأجمل الروائح لحظة قبض روحه رحمه الله. في مرضه كره أن يزورَه أحد سوانا.. عرفنا بواطن ذلك لمعرفتنا به رحمه الله؛ فلا يرغب أن يستقبل الناس بلبس المستشفى! ولما اشتد مرضه فعجز عن الكلام كان ينفض ثوبه بغية تغييره ظنا منه أن قطرة من المستحضرات الطبية وقعت عليه، فلا يهدأ حتى نغيره.. الحمد لله الذي نقله من هذه الدار إلى ضيافته.. فالأطهار الأنقياء بقاؤهم في الدنيا بركة لذويهم وارتحالهم خير لهم وكرم من خالقهم. قصة والدي مع الصحبة عجيبة أيضاً، فقد كان جدي مصاحبا للشيخ حمد المالك رحمه الله، وقد كانت العلاقة بينهما علاقة أخوة، ورثها والدي برا بأبيه، وتوثقت العرى بين أبي وتلك العائلة الكريمة التي كان يذكرها دائماً بالخير ويغدق عليهم من أوصاف الكرم والنبل والوفاء ما هم أهل له، ولذا فكان لا يرد لهم طلبا ولا يغيب عن مناسبة، فيشاركهم أفراحهم ويحث إخوتي على ذلك، وقد كان لفضيلة الوالد الشيخ منصور بن حمد المالك في قلب والدي مكانة خاصة لم ينلْها أحد سواه من القريبين والبعيدين. ماذا يسعني أن أقول في رثاء والدي؟ أجدني والله عاجزة على المضي في الكتابة عنه؛ كونها لم تشفِ غلة! وقد ظللت شهرا مضى أهدهد قلمي أسأله المسيل.. فكانت قطراته تتردد لعظم الخطب وجسامة التقصير.. فوالله إني مقصرة في حقك أبي، كتابة مقال ليست شافية.. فالسنون التي قضيناها معك بحاجة لسنين من الكتابة علنا ننقل شعلة من حياتك للناس. لست أنسى وأنا أضع القلم أن أعزي والدتي الحبيبة تلك المرأة الصابرة الوفية السائرة على إثرك، وأسأل الله أن يمد في عمرها ويرزقها العمل الصالح، كما أعزي نفسي المكلومة وإخوتي، ولا يفوتني أن أعزي والدي الشيخ منصور بن حمد المالك توأم أبي الروحي الذي عرفنا عنه من والدنا سيرة الشهم الوفي النبيل، وقد رأينا في دمعاته الصادقة وقت العزاء مصداق ما سمعناه، نسأل الله أن يمد في عمر والدنا الثاني ويجزيه عن والدنا خير الجزاء ويعيننا على صلته وبره ويجمعنا به ووالدينا وذوينا في الفردوس الأعلى. - الأستاذ المشارك في جامعة الأميرة نورة