عرفت الشيخ «سلطان بن جهجاه بن حميد»؛ قبل سنوات طويلة. رأيته أول مرة؛ على ضفاف وادي العقيق العظيم؛ في بلدته الجميلة؛ التي عاش وهو يحبها؛ ومات وهو يحبها، وكان رحمه الله؛ يفضلها على ما عداها من بلدات ومدن. إنها بلدة «عُشيرة»؛ التي هي حلقة ا لوصل بين نجد والحجاز. بل هي لا غيرها؛ «نجد الحجاز»؛ إن صحت التسمية. فهو الذي بذل ما في وسعه من جهد؛ لتخطيطها وتطويرها والتوطين بها؛ وأسس بها جمعية خيرية لمحتاجيها وفقرائها من أبنائها، وافتتح بها قبل أربع سنوات؛ محمية طبيعية للحياة الفطرية؛ وطن فيها النعام والحبارى والغزلان، وأكثر في أرجائها؛ مختلف أنواع الطيور والحيوانات والأشجار والنباتات. ثم ظل يلح على تأسيس «ناد رياضي ثقافي أدبي»، وخصص جوائز قيمة من ماله الخاص؛ للمتبارين في أنشطته وسباقاته، وقد حضرت وشهدت بدعوة منه؛ بعض حفلاتها الختامية، يوم كان يوزعها على الفائزين بنفسه. .. كان - رحمه الله رحمة الأبرار - رجلاً عربياً من الطراز الأول. من أولئك الرجال المخضرمين؛ الذين يجمعون بين ثقافتين متلازمتين؛ ثقافة البادية؛ بأصالتها وعراقتها؛ وثقافة المدينة؛ بكل ما فيها من تجديد وتحفيز. .. ولد «أبوفيصل»؛ على أديم بلاده الصحراوي، بين شميمها وعرارها، تحت سمائها الزرقاء، في عهد بانيها وموحدها؛ الملك عبدالعزيز رحمه الله؛ فشب وعاش مخلصا لها؛ وفياً لكيانها؛ مغرماً بما تحققه من تطور وتقدم ونجاح. .. لست هنا لأحصر مناقب رجل كبير عرفته؛ مثل الشيخ المرحوم إن شاء الله «سلطان بن جهجاه بن حميد»؛ فهي مناقب كبيرة وكثيرة؛ ولكني جئت لأعكس في كلمات قليلة متواضعة؛ شعوري الصادق؛ بفقد صديق عزيز؛ لا يملأ مكانه في القلب أحد سواه، إنه شعور بالخسارة الفادحة، فكل من عرف «ابن حميد»؛ من قريب أو بعيد؛ يحس بمرارة فقده: لابد من فقد.. ومن فاقد هيهات.. ما في الناس من خالد .. جاءني نبأ وفاته مساء يوم الأحد الفارط؛ إنه نعي كالصاعقة. فهذا هاتف غير متوقع؛ يهتف من بلدته الجميلة «عشيرة»؛ ويقول في أسى بالغ:«سلطان ابن حميد» مات..! يا له من هاتف حزين محزن معاً. من قال إن الهاتف «مسرة»..؟! إنه ينقل الأخبار غير السارة. فأين كان مجمع اللغة العربية من ذلك؛ يوم عرَّبه وقال: الهاتف هو «المسرة»..؟! .. خرجت من الدار تائهاً؛ لا أدري ماذا أفعل..؟! كيف أقاوم دموع الحزن في هذا الموقف العصيب: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بأمالي الى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع.. حتى كاد يشرق بي..! .. ماذا أقول لهذا الهاتف القادم من عمق الصحراء؛ وهو ينعي الى من أعز وأحب..؟! لقد تلعثم لساني؛ وكل الكلام عصاني.. إنها لحظة أكثر من مهيبة؛ فهذه النفس كسيرة حزينة: أيتها النفس .. اجملي جزعاً إن الذي تحذرين قد وقعا .. هاهو فارس همام من بلادي يترجل.. بل يرحل في هدوء وسكينة.. إنه مع كل ذلك؛ رحيل مرّ.. مرّ..! ألا ما أصبرنا على فراق الأهل والأحبة.. ففي كل يوم وليلة؛ نودع بدموعنا الحرّى؛ عزيز أو حبيب أو قريب، نبكيه ونبكيه.. فهل ينفعه أو يفيدنا عويلنا وبكاؤنا.؟ حلت مصيبة.. فعم مصابه فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد في كل دار رنة وزفير تجري عليك دموع من لم توله خيراً لأنك.. بالثناء جدير .. إن «أبا فيصل»؛ من أولئك الرجال القلائل؛ الذين يصعب نسيانهم أو سلوهم بسهولة. كان على خلق جم؛ يملك فطنة ملفتة؛ وذكاءً حاداً، وكان فيه حياء المؤمن الصادق؛ وتواضع العالم العارف. وكان كف اليد عما يخيب، عف اللسان عما يعيب، صاحب جود ونخوة؛ وكرم ومروءة؛ وعزة وشجاعة.. وكان - رحمه الله - حليماً وقوراً؛ على سماحة ونبل ورفعة.. كان رجلاً بكل ما تعنيه الكلمة. لم أشهد يوماً واحداً من مجالسه المكتظة بمحبيه - وما أكثر محبيه ومريديه - إلا وتمثلت بقول الشاعر العربي: حبيب الى الزوار.. غشيان بيته جميل المحيا.. شب وهو أريب وبقول الآخر: حليماً.. إذا ما الحلم كان حزامه وقوراً.. إذا كان الوقوف على الجمر .. ولكن.. كيف لمثلي بترديد شعر؛ أوالتذكير بطرفة أو حكمة أو نثر؛ ومجالس هذا الرجل الكبير؛ تحفل دائما بكل ما هو مفيد؛ من موروث العرب المجيد.. من أشعارهم المنتقاة، وحكمهم المبتغاة، وقصصهم المدهشة، وطرائفهم المبهجة..؟! إن مجلس «ابن حميد»؛ كان مدرسة لا تماثلها مدرسة، فيها تسمو أخلاق العرب الجليلة؛ وتتجلى صفاتهم العظيمة، وتبرز مكارمهم العريقة. كيف لا؛ وهو من نسيج أرومة أصيلة: فكل امرىء يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب .. في اليوم الذي وصل فيه جثمانه «رحمه الله» الى الرياض؛ محمولاً جواً؛ كنت أتحدث بالهاتف الى الأخ الصديق «عبدالرحمن» ابنه.. سمعته يقول: نحن في المطار؛ بعد قليل تصل الطائرة قادمة من لندن..! ياله من موقف رهيب، تختنق فيه العبرات، وتسح الدموع حسرات..! هذه ساعات الوداع أيها الصديق الصدوق؛ فإلى جنة الخلد؛ يا من كل ملء سمعنا وأبصارنا؛ فنحن لا نملك غير عبارات وداع نرددها؛ وعبرات حزن نغالبها، تظل تتحشرج في صدورنا حتى تغلبنا: فلو كان حي يفتدى.. لفديته بما لم تكن عند النفوس تطيب .. هذا هو الموت إذن، هادم لذات؛ ومفرق جماعات. قال شاعر: للموت فينا سهام غير خاطئة من فاته اليوم سهم.. لم يفته غداً وقال آخر: وما الموت إلا سارق دقَّ شخصه يصول بلا كف.. ويسعى بلا رجل .. لقد فقدنا بموت «ابن حميد» رحمه الله؛ أخاً وأباً وصديقاً؛ وعلماً من أعلام بلادنا الأفذاذ. ان كل من عرف «ابن حميد»؛ يُعزَّى فيه مثل أبنائه «فيصل ومحمد وبجاد وعبدالرحمن»؛ ومثل أهله كافة. ما لقيت واحداً عرف هذا الرجل في حياته؛ إلا وهو يذكره بما هو أهل له من فضل وخير؛ ثم يحزن عليه بحرقة؛ ويرثيه بعد وفاته: وقد فارق الناس الأحبة قبلنا وأعيا دواء الموت كل طبيب سبقنا الى الدنيا.. فلو عاش أهلها منعنا بها من جيئة وذهوب تملكها الآتي تملك سالب وفارقها الماضي.. فراق سليب .. فقدنا بفقده حقاً واحداً من الأخيار؛ ونبيلاً فاضلاً؛ ذهب شخصه عنَّا؛ وبقي ذكره الجميل فينا: سألت رسوم القبر.. عمن ثوى به لأعلم ما لاقى..؟ فقالت جوانبه: أتسأل عمّن عاش بعد وفاته بإحسانه.. إخوانه وأقاربه..؟! .. إنها كلمات وداع؛ في حق رجل كبير مفضال؛ ووقفة مُعزّ ومُعزَّى في آن واحد. أعزي أبناء الفقيد كلهم؛ أسرته كافة؛ ثم أعزي نفسي معهم: إنا «نعزيكمُ».. لا أنَّا على ثقة من الحياة.. ولكن سنة الدين فما المعزّى بباقٍ بعد ميته ولا المعزِّي.. ولو عاشا الى حين .. اللهم يا رب العباد كلهم؛ في شهرك الفضيل؛ هذا؛ الذي جعلت أوله رحمة،،ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، أسألك وأنت مجيب السائلين؛ وأدعوك وأنت ملبي الداعين؛ أن ترحم عبدك الآيب اليك فيه؛ «سلطان بن جهجاه بن حميد»؛ وأن تغفر له؛ وأن تعتق رقبته من النار. .. آمين.