في سفرنا لزيارة (معهد صامطة).. كان في استقبالنا بمطار جازان فضيلة الشيخ الداعية المشهور عبدالله بن علي القرعاوي - رحمه الله - نيابة عن تلميذه الشيخ حافظ الحكمي مدير المعهد لاعتلال صحة الأخير - نسبياً - تلفتنا نبحث عن السيارة الفارهة التي ستقلنا إلى المعهد.. ولكن الفراهة المنتظرة تحولت إلى (وانيت ) وهي سيارة الشيخ القرعاوي، التي ينتقل بها لتبليغ الدعوة وإرشاد أهالي المنطقة الذين أصبحوا يدينون له بتعليمهم الدين الصحيح الصافي من كدر الخرافات والجهالات المستحكمة في ذلك الزمان. حين خرجنا من المطار صعد بنا إلى أكمةٍ وقدم لنا حبات من الموز الصغير الحجم اللذيذ الطعم الذي لا زلت أستشعر لذاذته.. ولا أدري هل ذلك لخاصيته.. أم لاشتهائنا له ذلك اليوم؟. في توجهنا إلى صامطة صادفنا رجلاً يحمل ظبياً مذبوحاً فناداه الشيخ واشتراه منه، ورماه في صندوق الونيت.. قال الشيخ: (هذا عشاكم الليلة إن شاء الله). قلنا: (يا شيخ ما فيه داعي للكلافة كما أننا ضيوف على المعهد، والضيف في حكم المُضيف!) رد علينا (بهواكم)، يعني لن تذوقوه إذاً! فقلنا - في أنفسنا -: (كم كلمة قالت لصاحبها دعني!).. كنا في منتهى السرور بأن نتعشى لحم ظبي.. كنا نسمع عنه ولم نذقه قبلا.. إلا أن ردَّنا الاستحيائي كان سبباً لحرماننا تلك الأكلة الجديدة علينا.. لو أنها تحققت..! والشيخ القرعاوي مشهور بالكرم.. ولعل عدم تلزيمه بالدعوة لذلك العشاء كان وراءه سفر طارئ في نفس الليلة علمنا به في اليوم التالي! لقد ذهب لإصلاح ذات البين، في إحدى القرى المجاورة؛ فهو رحمه الله، ليس داعياً ومعلماً وموجهاً للخير فحسب.. بل هو (فرقة إطفائية) لمنازعات وخلافات بين مواطني تلك المنطقة.. وكلمته هي الحاسمة! وهم يثقون به ثقة لا حدود لها.. ويحبونه ويحترمونه كأب روحي لهم جميعاً.. وكم نفع الله بعلمه ودعوته المخلصة المنطقة الجنوبية الغربية من المملكة. جَدَّ بنا الطريقُ من جازان إلى صامطة مروراً ببلدة يبدو أنها جديدة البناء في ذلك الزمان 1377ه وكل مساكنها مبنية بالطين واللبن.. بلدة استغربنا اسمها (جُحا)! ولا أذكر تعليلا لهذا الاسم الغريب.. دَلَفْنا منها.. بعد عدة أكيال.. إلى بلدة جل مساكنها (أكواخ).. يحسب القادم إليها أول مرة أنه في مجاهل إفريقيا..! قال لنا الشيخ القائد: أبشروا (هذه صامطة)! شعرنا قبل دخولها بالتعاطف مع أهل هذه الأكواخ المستنسخة من أكواخ إفريقيا.. لكننا حين دخلناها وقلبنا أبصارنا في سقوفها وجدرانها تغيرت مشاعرنا نحوها..وبخاصة حين أخبرونا أن هذا الفن الجمالي في الداخل هو عمل ربات البيوت.. وليس للرجال فيه أي جهد يذكر..!..كانت النساء يتمايَزْن في تزويق هذه المساكن من الداخل، وتجميلها.. وقد تكون للأسرة الواحدة عدة صالات (أكواخ) للجلسات الرجالية ومثلها للنساء، والمعيشة، والمنافع الأخرى. المعهد والمجتمع وصلنا إلى المعهد قرابة الظهر.. واستقبلنا شيخه ومديره الشيخ حافظ الحكمي - رحمه الله - وأسرة المعهد من مدرسين وإداريين.. ودارت بيننا أحاديث عامة حول دور المعهد وتأثيره على المنطقة.. فكانت ألسنتهم تلهج بالحمد والثناء على الله جل وعلا.. ثم على الذين أوجدوا هذه المعاهد العلمية خدمة للدين ثم الأمة والوطن.. وأثنوا على تأثير المعهد في حياة المنطقة علمياً وثقافياً واجتماعياً.. بالقدر الذي جعل من هذا المعهد - ككل المعاهد - منطلقا إلى عالم جديد.. وإلى حياة أرغد وأسعد، وهم محقون في هذا القول فتأثير المعاهد العلمية وكلياتها في النهضة التعليمية في المملكة والتفتح الفكري، والأدبي، والثقافي، والاجتماعي.. هو تأثير لا يماري في حقيقته إلا جاهل أو معاند لحاجة في نفسه، وليس أهل صامطة وحدهم الذين نقلهم المعهد من طور إلى طور..! بل جميع المعاهد في جميع المدن والمناطق كان لها من ذلك النصب الأوفر.. حتى وإن وجد من حاول التطاول على هذه الحقيقة الواضحة. طرائف .. ومواقف.. كنت أحرص على تسجيل (هوامش الرحلة).. وقد تكون هي أهم من (المتن).. في حد ذاتها؛ لأن فيها إشارة أو كشفاً لعادة اجتماعية.. أو لهجة غريبة قل أن تسمع إلا في محيطها المحدود.. أو نباتات مهمة لم تستثمر.. الخ. لقد انصب جل اهتمامي على سماع اللهجة المحلية العويصة والتي أطلب (ترجمتها!) ويتم ذلك من زملائنا في المعهد أو المرافقين لنا في الجولات الحرة على الأسواق الشعبية، وغيرها. ولقد سمعت حكايات مضحكة.. ومواقف محرجة بسبب الفروق الواسعة بين معاني الكلمات في نجد والحجاز.. ومعانيها في منطقة الجنوب الغربي والأوسط بل وجد فيها ما يمكن أن يُعد من فاحش القول بالنسبة لمن لا يعرف معانيها! كالذي جاء إلى قاض نجدي في مهمة فتأخر خروج القاضي إليه فخاطبه قائلا: (يا مجاضي من أمْطلْ وأنا (...) (...) حتى تقنبرت على إستي في امعرسه) ولولا وجود رجل آخر يفسر هذه الكلمات العويصة لكانت مشكلة! وقد كتبت بعنوان (على هامش الجولات التفتيشية) عدة مقالات نشرتها (اليمامة) حين كانت جريدة أسبوعية على عهد ورئاسة أستاذنا حمد الجاسر - رحمه الله - عن كل مدينة أو منطقة زرتها.. وكتبت انطباعاتي عنها.. خلال عامي 77 - 1378ه ومن ضمن ذلك ما خصصت به منطقة جازان.. ومنها صامطة.. وهو ما استرعى انتباه الأستاذ علي العمير الذي اعتبر كتابتي تلك عن منطقته حافزه الأول لبدايته الكتابية كما قال ذلك في إحدى الصحف المحلية في ذلك العام ثم نشره في كتابه الأول. ولقد لمح الأخ الأستاذ (الدكتور عبدالله الفيفي) إلى مثل هذه الكلمات العويصة التي لا يمكن أن تعرف معانيها إلا بتوضيح خاص ! وذلك في مقال نشره في إحدى الصحف المحلية، منذ أيام، وحبذا لو استمر في كتابته عن هذا الموضوع اللغوي المحلي في جبال فيفا.. وما حولها.. وهذه اللهجات المحلية في الجنوب تتكئ على موروث لغوي قديم هو اللغة الحميرية والتي نطق الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض مفرداتها في قوله (ليس من امْبر امْصيام في امْسفر) أي ليس من البر الصيام في السفر. حاول الشيخ القرعاوي أن يزوجني في المنطقة! وألح في هذا الأمر.. قلت: ( علشان ايش؟) قال: (علشان تقسم وقتك بين الرياض،وصامطة.. ويمكن أن يكون لك أولاد هنا قد ينفع الله بهم).. قلت: (إنني متزوج وعندي طفلان والحمد لله).. قال: (ولو! وإن كان المانع عندك قصر المدة المحددة لك.. فأنا والله العظيم أستطيع أن أدخلك عليها هذه الليلة وقبل العشاء إن شئت وعزمت؟ وسأذكر لك عدة أسر تختار إحدى بناتها، ولا تهمك الأشياء المادية كالمهر ونحوه فكل ذلك سوف يتيسر ومستعدون لإقراضك المبلغ المطلوب).. قلت للشيخ والجالسين معه: (شكراً).. ولا شك أن كثيرين يسيل لعابهم لهذا العرض إلا أن الشعور بالمسؤولية تجاه زوجة فاضلة لم أر منها إلا الخير والبر والتقوى.. منعنى حتى من شم رائحة هذا العرض فضلا عن مد اليد إليه..! * نقلونا بالسيارات إلى (بلاد المسارحة) والسوق الشعبي فيها.. وأهم ما لفت نظري نبات (الكادي) وهو الذي يستخرج منه عطر (الكاد) المشهور.. وهو يشبه كافور النخل إذا فلق.. وأسفت أن هذا النبات العطري الجميل لم توجد يد تجاريه تصنعه وتسوقه.. وترفع بذلك دخل زرّاعه ومنتجيه. * لعل كثيرا من القراء لم ينسوا كاتبا محلقا في فكره وثقافته هو الابن الأكبر أو الأوحد - لا أدري - للشيخ القرعاوي - هو الأستاذ علي بن عبدالله القرعاوي الذي امتلأت الصحف المحلية بنتاجه الأدبي الجميل قبل عقدين من الزمان أو أكثر. ويبدو أن نتاجه قد مات بموته - رحمه الله - فلم يلتفت أحد من أسرته أو سواهم.. إلى جمعة وتنقيحه ونشر ما له صفة الديمومة والبقاء منه، وكانت له مداخلات جيدة حول بعض قصائدي التي أنشرها بين الحين والآخر. * من طرائف ما وجدناه هناك أن الفطور الذي أعده لنا الشيخ حافظ الحكمي مدير المعهد في منزله وهو عدة أصناف لا تحصى عدداً.. ولكن الغريب فيه (الذبيحة) التي توسطت المائدة.. ونحن في (نجد) لم نعتد أكل اللحم في إفطار الصباح إلا يوماً واحداً في السنة، وهو (يوم العيد) ولكن المجاملة على هذا الاجتهاد في الكرم جعلتنا نستحي من الامتناع عن أكله فخمشنا منه ما تيسر شاكرين لضيفنا وزملائه عظيم كرمهم، رحم الله الراحلين منهم وأمد في أعمار الأحياء بوافر الصحة وأحسن لنا ولهم الخاتمة.