في الخامس عشر من مايو من كل عام تمر ذكرى أليمة على الشعب الفلسطيني، ألا وهي ذكرى النكبة وضياع فلسطين وقيام الكيان الصهيوني على أنقاضها في العام 1948م، بمساندة ودعم القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت، وعلى رأسها بريطانيا العظمى والولاياتالمتحدةالأمريكية، اللتان انتهكتا بذلك القوانين والأعراف الدولية وحق الإنسان الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير. ويصادف يوم السبت 15 مايو (أيار) من هذا العام 2004م، الذكرى السادسة والخمسين للنكبة، ففي مثل هذا التاريخ من عام 1948 تسارعت أحداث جسام لتبدل معالم مشرقنا ومصير أمتنا، وذلك بعد منتصف ليل 14-15 مايو (أيار) 1948 انتهى عهد الانتداب البريطاني المشين على فلسطين، وأعلنت (الهيئة التنفيذية لمجلس الشعب) الصهيونية في تل أبيب قيام دولة يهودية باسم (إسرائيل) حيث اعترف الرئيس الأمريكي ترومان بهذا الكيان الوليد بعد 11 دقيقة من الإعلان عن قيامه. وتحركت وحدات من جيوش سورية وشرق الأردن والعراق ومصر ولبنان نحو حدود فلسطين الدولية، حيث اندلعت أولى الحروب النظامية بين الصهيونية والدول العربية، التي انتهت بهزيمة الجيوش العربية، وضياع فلسطين، والتي اصطلح العرب تسمية آثارها ب (النكبة)، ودرج المنتصر (إسرائيل) على تسميتها (حرب الاستقلال) والاحتفال بها كل عام. وقد تجلّى في ذلك الوقت عجز وقصور الدول العربية، الذي كان أحد الأسباب الرئيسة في الهزيمة، وكانت النكبة الحبة الأولى في انفراط العقد الفلسطيني وسيطرة الصهيونية على كامل التراب الوطني الفلسطيني وأراض عربية أخرى، وتهديد أسس وأركان النظام العربي. ولا يزال الشعب الفلسطيني يكابد ويعاني ويمر بأصعب الأوقات وأسوأ الأحوال، حيث تمارس القوات الصهيونية كل أصناف الإرهاب والقمع والبطش ضد هذا الشعب المقاوم الصامد، سواء من بقي منه داخل الأراضي التي احتلت في العام 48 ويسمون (عرب إسرائيل)، أو من يعيش في ما تبقى من أرض الآباء والأجداد في الضفة الغربيةوغزة، حيث المستوطنات تنهش وتلتهم ما تبقى من الأرض، وجدار الفصل العنصري يتمدد ويتلوى كالأفعى في ما تبقي من أراض فلسطين، ويسجن مواطنيها خلف أسواره العالية، ويعزلهم في كانتونات أشبه بالبانتوستونات التي أقامها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لعزل سكانها السود عن البيض الذين قدموا إلى تلك البلاد كمستوطنين ومستعمرين، كما هو الحال في فلسطين. وتمر علينا ذكرى نكبة فلسطين هذا العام، وقد ابتلي العرب بنكبة جديدة لا تقل خطورة عن نكبة فلسطين (النكبة الأولى)، وليس من المبالغة القول بأن (النكبة الثانية) قد أدخلت المنطقة العربية بكاملها في مرحلة خطيرة، حيث الهجمة الاستعمارية الشرسة الجديدة التي تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية بحجة محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية. وقد استغل الكيان الصهيوني الظروف والأوضاع الجديدة في المنطقة العربية، واستكانة وصمت الأنظمة، وحتى الشعوب العربية، والدعم اللامحدود التي تقدمه له الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبخاصة رئيسها جورج بوش الابن الذي يعتبره الفلسطينيون أشد تطرفاً وعداءً لهم من شارون وزمرته الصهيونية، وأخذت الحكومة الاسرائيلية تماطل وتتهرب من استحقاقات مايسمى باتفاقيات السلام مع الفلسطينيين، وتمارس كافة وسائل القتل والتدمير والاغتيالات ضد الفلسطينيين المنتفضين في غزةوالضفة الغربية. وقد توج بوش مؤخراً دعمه اللامحدود للكيان الصهيوني وتنكره لحقوق الشعب الفلسطيني وذلك أثناء زيارة شارون الى واشنطن الشهر الماضي، حيث قبل ببقاء كتل استيطانية اسرائيلية في الضفة الغربية، وتعهد للمجرم شارون بالعمل على إسقاط حق العودة للشعب الفلسطيني الى أرضه المغتصبة، وتوطين الاجئين الفلسطينيين حيث يعيشون في الشتات، بحيث تبقى إسرائيل (دولة لليهود)، وقد أطلق على هذا التعهد (وعد بوش) الذي يذكرنا بوعد بلفور المشؤوم عام 1917م، حين تعهدت بريطانيا بمساعدة اليهود على إقامة وطن لهم في فلسطين العربية دون اعتبار لمصير ومستقبل أهل البلاد الاصليين. وبهذا الوعد الجديد قد تبنى مشاريع اسرائيل التوسعية والعدوانية العنصرية بالكامل، بكل ما تشكله من انتهاك للشرعية الدولية وتحدٍ للأمة العربية. وقد هلّل الإسرائيليون وفرحوا وامتدحوا واثنوا على وعد بوش، وتجلّى ذلك حين تبجح الرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف، أثناء زيارته الأخيرة لألمانيا، قائلا: (إن جورج بوش قبر أحلام اللاجئين الفلسطينيين، وأسدى معروفاً كبيراً (لإسرائيل) بإعلان رفضه لحق العودة، مما جعله يستحق ثناء الإسرائيليين). ولكن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، الذي تسعى اسرائيل وأمريكا ومن والاها إلى قبره ووأده، هو حق شرعي ثابت ولا يسقط بالتقادم، وجوهر المأساة الفلسطينية، وقد كفلته جميع الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، وخاصة قرار الأممالمتحدة رقم (194) الذي صدر عام 1949م، وأكد على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم وممتلكاتهم، والتعويض لمن لا يرغب في العودة. بداية المؤامرة نجحت أول خيوط المؤامرة لتهويد فلسطين منذ المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897م، مروراً بوعد بلفور المشؤوم، واتفاقية سايكس بيكو، والانتداب البريطاني، وصولاً إلى الغزوة الصهيونية لأرض فلسطين واقامة المستعمرات والبدء بحرب القتل والتشريد والتهجير للشعب الفلسطيني على مدى النصف الأول من القرن العشرين. وتوجت المؤامرة وتجسدت بإعلان قيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في 15 مايو 1948م، وحصول هذا الكيان على الشرعية الدولية بموجب قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين في نوفمبر عام 1947م، على أنقاض طوابير المهجرين إلى دول الشتات. ماهي النكبة؟ إنها عملية اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره وفصله عن أرضه، وطرده من مدنه وقراه حيث تم تهجير وتشريد أهالي 531 مدينة وقرية من ديارهم عام 1948م، وهم يشكّلون 85% من أهالي الأرض التي أصبحت تسمى (إسرائيل). أرضهم هذه تساوي 92% من مساحة (إسرائيل)، أي أن 70% من شعب فلسطين اصبح من اللاجئين الذين يصل عددهم اليوم إلى أكثر من خمسة ملايين، أرضهم في ما يسمى (إسرائيل) مساحتها 18.700 كيلومتر مربع، صودرت بالكامل، وتؤجر لليهود فقط، وبدأت السلطات الإسرائيلية الآن تبيعها لكل مشترٍ يهودي حتى لو لم يكن يحمل الجنسية (الإسرائيلية)، ويعيش في استراليا، في حين تمنع حتى تأجيرها للفلسطيني الذي يحمل الجنسية (الإسرائيلية) من (عرب إسرائيل) أو يطلق عليهم عرب ال 48. كيف وقعت النكبة؟ في عام 1917، خانت بريطانيا وتنكرت لوعودها للعرب بمنحهم الاستقلال عند مساعدتها لإزالة الحكم العثماني عن بلادهم، حيث أصدرت وعد بلفور المشؤوم في 2 نوفمبر 1917 الذي (ينظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين)، وقد كان ذلك وعد من لا يملك لمن لا يستحق دون علم صاحب الحق، وخلال 30 عاماً من الانتداب البريطاني على فلسطين، سنت بريطانيا القوانين واتخذت الإجراءات التي يسرت إنشاء هذا الوطن حتى اصبح دولة عام 1948. كان عدد اليهود عند بداية الاحتلال البريطاني 56.000 أي 9% من مجموع السكان، غالبيتهم من رعايا الدول الأجنبية. وما أن انتهى الانتداب عام 1948 حتى أصبح عددهم 605.000 يهودي، نتيجة الهجرة الظاهرة والخفية التي سمحت بها بريطانيا رغم معارضة الأهالي ومقاومتهم وثوراتهم، وهكذا أصبح اليهود يمثلون أقل من ثلث سكان فلسطين الذين بلغ عددهم في عام النكبة حوالي مليوني نسمة. الاستيلاء على الأرض لقد كثفت الصهيونية جهودها، وجندت موظفي حكومة الانتداب الصهاينة، وعلى رأسهم هربرت صموئيل، اليهودي الصهيوني وأول مندوب سامي بريطاني في فلسطين وعرّاب وعد بلفور،لإعطاء اليهود حق امتياز استغلال الأراضي التي اعتبرت أملاك دولة، وأنشأت بريطانيا إدارة للمساحة هدفها تحديد ملكية كل ارض بأسعار خيالية. وكانت ضالتهم المنشودة كبار الملاك الغائبين من رعايا الدول العربية المجاورة، وبعدها اتجهوا إلى كبار الملاك (الإقطاعيين) الفلسطينيين الذين يعيشون في المدن. أما الفلاحون المتمسكون بأرضهم يفلحونها منذ مئات السنين، فقد ضيقت بريطانيا عليهم الخناق بفرض الضرائب الباهظة عليهم، حتى لا يجد الفلاح المسكين غير المرابي اليهودي لإقراضه مقابل رهن أرضه التي لا تلبث أن تقع في حوزة اليهودي بسبب عدم السداد أو عبر السمسار الفلسطيني الجشع الذي باع ضميره مقابل المال. ورغم هذه الجهود المكثفة، لم تنجح الصهيونية في الاستحواذ على اكثر من 6% من مساحة فلسطين، أي 1.681 كيلو متر مربع، منها 175 كيلومتر مربع امتيازات تأجير طويل الأمد منحتها بريطانيا لليهود، و57 كيلو مترا مربعا حصة في ارض غير مفروزة، و 1.449 كيلو متر مربع تملّكها اليهود مباشرة، وان لم يتم تسجيلها كلها بشكل قانوني. تبين إحصائية الوكالة اليهودية انهم اشتروا 52.6% من الأراضي من كبار الملاك الغائبين غير الفلسطينيين، مثل عائلة سرسق في لبنان وغيرها، و24.6% من كبار الملاك (الإقطاعيين) الفلسطينيين، و13.4% من الكنائس والشركات الأجنبية، أما نصيب الفلاحين المرهقين ضريبياً فكان 9.4%. تقسيم جائر وهكذا بعد تعاون بريطاني صهيوني على مدى 30 عاماً، لم تنجح الصهيونية إلا في الاستحواذ على 6% من مساحة فلسطين، لكنها نجحت في زيادة عدد اليهود إلى حوالي ثلث السكان عبر الهجرة غير المشروعة، عندئذ نقلت الصهيونية جهودها إلى أمريكا، واتخذت من رئيسها هاري ترومان مناصرا لها، لكي تضغط أمريكا بكل قواها على الدول الصغيرة، وتهددها بقطع المعونات عنها إذا لم تصوت لصالح قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين بين أهلها أصحاب الحق فيها، وبين مهاجرين غرباء لا يعرفون اسم المدينة التي وصلوا إليها، وكانت الطامة الكبرى على العرب عندما نجح قرار التقسيم رقم 181 في 29 نوفمبر 1947م، بأغلبية ضئيلة حيث أوصى بإقامة دولة يهودية على 54% من ارض فلسطين ودولة عربية على الباقي، مع تدويل القدس تحت إدارة منفصلة. هذا الجور والظلم التاريخي قضى بأن تفرض أقلية أجنبية مهاجرة سيادتها على أكثر من نصف فلسطين، أي تسعة أضعاف ما كانت تملك، وتقيم فيها دولة صهيونية عنصرية. التوسع والتهجير بدأت خطة الاستيلاء على الأرض وتهجير السكان في أوائل أبريل 1948 قبل نهاية الانتداب البريطاني، بوصل الأراضي اليهودية ببعضها ثم الاستيلاء على الأرض العربية حولها وطرد سكانها، حيث اتبعت القوات اليهودية سياسة التطهير العرقي، كانت تحيط القرية من ثلاث جهات، وتترك الرابعة مفتوحة، ثم تجمع سكان القرية في مكان، وتختار عدداً من الشباب لإعدامهم، أو تقتلهم بالرصاص أو تحرقهم إذا وجدتهم مختبئين في مسجد أو كنيسة أو غار، وتترك الباقين ليهربوا وينقلوا أخبار الفظائع أو تأخذ بعضاً منهم في أعمال السخرة لنقل أحجار البيوت العربية التي هدمتها أو حفر القبور لمن قتلتهم. ولا أحد ينسى مذبحة دير ياسين، وهي واحدة من 17 مذبحة اقترفت أثناء الانتداب و17 أخرى بعده، ولم تحرك القوات البريطانية ساكناً لحماية الأهالي حسب ميثاق الانتداب. وما أن جاءت نهاية الانتداب حتى سيطرت (إسرائيل) على 13% من مساحة فلسطين، وطردت حوالي 400 ألف لاجئ، أعلنت قيام دولتهم على هذه الرقعة، ولكن دون تحديد أي حدود، فلا يزال النهم الصهيوني لابتلاع الأرض في أوله، سيطرت الدولة الجديدة آنذاك على معظم السهل الساحلي وشريط غربي نهر الأردن حول بحيرة طبرية، وشريط يصل بينهما في مرج ابن عامر على شكل حرف N، وسقطت في يدها مدن فلسطينية مهمة مثل يافا وحيفا وطبرية وصفد وبيسان، أشرفت عكا على السقوط. بدأت بشاعة الكارثة تظهر للعيان ووصلت أخبار المذابح إلى الشعب العربي في كل العواصم، فهاج واستنكر سكوت حكوماته وتقاعسها. عقب ذلك دخلت قوات نظامية صغيرة من الدول العربية، متفرقة غير متعاونة، لحماية الشعب الفلسطيني من هذه الكارثة، استجابة لغضبة الشعب العربي وتظاهراته، ولم تكن بريطانيا تسمح لها بدخول فلسطين قبل نهاية انتدابها، لكن قدراتها العسكرية وعددها كان أقل بكثير من القوات الصهيونية. جاءت القوات النظامية إلى فلسطين دون خطة موحدة، أو معرفة بالبلاد أو بالعدو، وكان عددها مجتمعة لا يتجاوز ثلث القوات (الإسرائيلية)، ولذلك لم تتمكن من وقف المد (الإسرائيلي)، الذي سرعان ما انتشر ليحتل اللد والرملة ويحتل ممراً يؤدي إلى القدس ويحتل مساحات واسعة في الجليل، وكانت تلك إشارة أولية إلى هزيمة العرب. وعند إعلان الهدنة الثانية قفز عدد اللاجئين إلى أكثر من 630 ألف، تم طردهم من 378 قرية حتى ذلك التاريخ، واحتلت (إسرائيل) أرضاً تساوي 3 أضعاف الأرض اليهودية، وهي من اخصب الأراضي وأكثرها كثافة سكانية، وبذلك انتهت فعلياً حرب فلسطين. لكن النهم والطمع (الإسرائيلي) لم ينته، فاتجهت قواتهم نحو الجنوب لتحتله وتهزم الجيش المصري، اكبر قوة عربية، وفي منتصف أكتوبر، احتلت (إسرائيل) مساحات واسعة من الجنوب حتى بئر السبع وجنوب القدس، وامتدت على الساحل الجنوبي واصبح عدد اللاجئين 664 ألفا طردوا من 418 قرية حتى ذلك الوقت. ونقلت (إسرائيل) قواتها من الجنوب إلى الشمال، واحتلت الجليل بأكمله و12 قرية من لبنان في أوائل نوفمبر 1948، وسيطرت بذلك على كامل شمال فلسطين وتعدت الحدود اللبنانية عند إصبع الجليل. واستأثر الجليل بأكبر عدد من المذابح، وذلك لان المنطقة جبلية، ولترويع الأهالي الذين رفضوا النزوح من الجليل الواقع في الدولة العربية حسب قرار التقسيم. من اجل ذلك اقترفت (إسرائيل) في الجليل 34 مذبحة، ولم تخل قرية واحدة من قتل أو تدمير أو ترويع. ولا شك في أن المذابح كانت سياسة (إسرائيلية) مدروسة لترويع الأهالي وطردهم والاستيلاء على أرضهم. محاولة طمس الحقائق وفي السنوات الأخيرة، ظهرت أبحاث ومؤلفات لباحثين (إسرائيليين) أطلق عليهم (المؤرخون الجدد)، أشهرهم الدكتور سيمحا فلابان والدكتور بيني موريس، الذين اطلعوا على الملفات (الإسرائيلية)، التي أصبحت مفتوحة لهم، والتي أكدت وقوع هذه المذابح ولكنها عزتها إلى ظروف الحرب. لكن هذا الطرح بدأ يفقد قيمته لوضوح البرهان على تكرار المذابح بشكل منتظم في جميع الظروف، وتم العثور على أوامر صريحة من القادة بالتخلص من الأهالي. وجاء البرهان والدليل الدامغ عندما فتحت ملفات مراقبي الهدنة التي أكدت هذا الأمر، وذكرت تقارير المراقبين انه لكثرة المذابح (ليس لدينا الوقت والإمكانات للتحقيق في كل هذه الفظائع). لكن الدول العربية فقدت قدرتها على القتال لإنقاذ الأهالي، ولم تستطع ردم الخلافات فيما بينها وتكوين قيادة موحدة، لذلك سارعت إلى توقيع اتفاقيات هدنة مع (إسرائيل) في رودس، بدأتها مصر في 24-2-1949م، وتلتها لبنان في 23- 3-1949م، ثم الأردن في 3-4- 1949م، وأخيراً سوريا في 20-7- 1949م، كعادتها دائماً تكون آخر الموقعين. وبعد توقيع تلك الاتفاقيات، احتلت (إسرائيل) دون إطلاق رصاصة واحدة النقب الجنوبي حتى وصلت إلى أم رشرش (ايلات الآن)، ورفعت علمها على خليج العقبة، وبينما كانت مفاوضات الهدنة تدور، تنازل الملك عبد الله عن 436 كيلومترا مربعاً في المثلث الصغير الخصب والمليء بالسكان، وحسب شروط الهدنة خرجت القوات المصرية المحاصرة من الفالوجا بكامل سلاحها، وكان من بين ضباطها جمال عبد الناصر. وتخطت بذلك (إسرائيل) خط التقسيم في جميع الجهات باحتلالها 78% من ارض فلسطين أي بزيادة 24% عن ما خصص لها في مشروع التقسيم، فاحتلت الجليل الأوسط المخصص للدولة العربية، واحتلت مثلثاً يصلها بالقدس عبر اللد والرملة، رغم أن القدس منطقة دولية وما حولها عربي، حسب قرار التقسيم. وفي الجنوب تمددت (إسرائيل) نحو البحر الميت، واحتلت مدينة بئر السبع العربية، واحتلت ثلثي المنطقة الساحلية المخصصة للعرب التي بقي منها قطاع غزة الصغير. وبذلك احتلت (إسرائيل) 6.300 كيلومتر مربع خارج حدود التقسيم. أما على الصعيد الإنساني فقد خلفت هذه النكبة وراءها حوالي 900 ألف لاجئ (عددهم الآن خمسة ملايين) طردوا من 531 مدينة وقرية، نزحوا إلى الجنوب المتبقي في قطاع غزة والى الشرق، فيما اصبح يعرف بالضفة الغربية، والى شرق الأردن، والى الشمال نحو سورياولبنان. سابقة خطيرة لم يسبق في التاريخ الحديث أن غزت أقلية أجنبية وطن الأكثرية، بدعم سياسي ومالي وعسكري من الخارج، وطردتها من وطنها مثلما حدث في فلسطين. لقد وزعت (إسرائيل) البيوت الجميلة في القدس الغربية وحيفا وغيرهما على البارزين من رجال الحكم، واستوعبت مئات الآلاف من اليهود القادمين من بلاد غربية في باقي المساكن، أما القرى، فقد هدمت ونسفت بيوت ثلاثة أرباعها بشكل تام، والربع الباقي بدرجة اقل. ومن المشاهد الإنسانية المؤثرة رؤية بعض اللاجئين وقد شاخوا، يأخذون أولادهم وأحفادهم لزيارة مواقع قراهم الأصلية، بعد أن اصبح ذلك ممكنا لبعضهم بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب يونيه عام 1967م، ليعرفوهم على مواطنهم وذكراها محفوظة في قلوبهم، ليجدوا حائطا هنا وشجرة هناك. يبحثون عن قبور أجدادهم فيجدونها مبعثرة أو مكتوباً عليها عبارات عنصرية بالعبرية، ويجدون وهم في ذهول واستنكار أن الجامع اصبح متحفا أو مطعما أو مخزناً للنفايات أو مكاناً لممارسة الرذيلة. لقد نجحت الصهيونية في الاستيلاء على الأرض حتى الآن، وفصلت أهلها عنها وشتتتهم في أنحاء الأرض. لكنها لم تنجح في القضاء على الشعب الفلسطيني الذي بقي حياً ومتماسكاً إلى حد كبير، ولم يندثر كما اندثرت أمم قبله في كوارث اقل جسامة. العودة ممكنة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وممتلكاتهم مقدس وقانوني وممكن، هو مقدس لأنه في وجدان كل فلسطيني شيخاً أم طفلاً، إذ رغم مرور أكثر من نصف قرن، لا يزال حق العودة هو الشعلة التي تضيء ظلام الحياة التي يعيشونها. إن حق العودة ممكن لأنه رغم تدفق المهاجرين اليهود على (إسرائيل)، لا تزال معظم الأراضي الفلسطينية خالية أو بها غالبية من الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم، هذا ما أثبتته الدراسات الديموغرافية المبنية على الإحصاءات (الإسرائيلية). وبناء على ذلك، لو تصورنا عودة لاجئي لبنان إلى الجليل، لما تأثرت كثافة اليهود في الوسط بأكثر من واحد في المائة. ولو عاد لاجئو غزة إلى ديارهم في الجنوب، لما تأثرت كثافة اليهود في الوسط بأكثر من 5%، بل انه من المفارقات المؤلمة أن مجموع لاجئي غزةولبنان هو نفسه عدد المهاجرين الروس الذين استوعبتهم (إسرائيل) بسهولة في التسعينيات. ومما يؤسف له أن كثيراً من المسؤولين لا يدركون انه بالإمكان عودة اللاجئين إلى ديارهم في (إسرائيل) حسب ما أكدته الدراسات الديموغرافية الجادة. وهم يقبلون بسهولة الخرافة (الإسرائيلية) أن المكان مزدحم وان حدود الملكية قد زالت. وهذا خطأ في القول وادعاء مغرض لا يمكن أن يصمد أمام البحث الجاد. توجد مئات من الخرائط البريطانية التي تبين حدود الأراضي العربية ومساحتها في كل القرى والمدن، ويوجد في أرشيف الأممالمتحدة حوالي نصف مليون سجل، يبين ملكية كل فرد ومساحتها ومكانها، والتقنية الحديثة تستطيع إرجاع كل متر إلى اصله. وليس علينا أن نثبت انه يوجد متسع في المكان لعودة اللاجئين إلى بيوتهم، ولا أن نحدد مكان البيت والأرض، فحق الإنسان في العودة إلى بيته وملكه الخاص هو من الحقوق الأساسية حسب الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، لا يسقط بالتقادم ولا بالاحتلال أو فرض سيادة أجنبية، ولا يعقل أن يفرض على صاحب البيت إثبات حقه أمام الغازي الأجنبي أو المهاجر اليهودي الذي يصل من أي بقعة من بقاع الأرض ليسكن هذا البيت. وكثير من الناس في الغرب يقبلون الحجة (الإسرائيلية) بضرورة بقاء (إسرائيل) نقية من العرب وضرورة بقاء اليهود أغلبية مطلقة. هذا القول العنصري لا يعادله عنصرية إلا القول بأحقية جنوب إفريقيا في الحفاظ على الفصل العنصري (الابرتهايد). هذه حجة غير قانونية وغير أخلاقية، وأيضا غير عملية. إذ تبلغ نسبة اليهود من كل سكان فلسطين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط 55% والعرب 45%. وما هي إلا مسألة وقت حتى يتم التعادل بل يزيد لان الزيادة الطبيعية السنوية بين الفلسطينيين تتجاوز 3.5%، بينما تبلغ الزيادة الطبيعية لدى اليهود 1.5% سنوياً، تضاف إليها الهجرة التي قد تضاعف كما حدث في التسعينيات.لكنها غير منتظمة والاعتماد عليها أمر غير مضمون. إذن فان استمرار هذا الفصل العنصري المقيت هو غير قانوني وغير أخلاقي وغير عملي أيضاً. المستقبل صعب ولكنه واعد ابتليت فلسطين وأهلها بعواقب اتفاق أوسلو العاثر، لأنه جرد الحق الفلسطيني من شرعية القانون الدولي وجعله رهنا لإملاء القوي على الضعيف، وهو لا يلقى القبول والرضا من غالبية الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين الذين لا تزال أغلبيتهم الساحقة (71%) خارج فلسطين بعيداً عن مناطق السلطة الفلسطينية وحكم (إسرائيل). أما ارض من بقي على ارض فلسطين المحتلة عام 1967، في الضفة الغربية (مساحتها 21% من فلسطين) فلا تزال (إسرائيل) تقضم منها قطعة قطعة حتى التهمت أكثر من نصف الضفة ونصف القطاع. أما هؤلاء الباقون في أرضهم المحتلة عام 1948، فقد صادرت (إسرائيل) التي يحملون جنسيتها أكثر من نصف أراضيهم، لكنهم يمرون الآن بصحوة وطنية بعد أن اعتبرتهم (إسرائيل) أسرى حرب حتى عام 1966، فقد انتعشت آمالهم وكونوا أحزاباً وجماعات لتوكيد هويتهم وارثهم الجغرافي والتاريخي. وهكذا يجد اللاجئون اليوم أنفسهم في أسوأ حال منذ النكبة، ويطلبون منهم تحت غطاء السلام أن يسقطوا حقوقهم، أيعقل أن ينتظر هؤلاء ستة وخمسين عاماً في الشتات، مقاومين مناضلين صابرين، لكي يقروا بعدها انه ليس لهم وطن وليس لهم حق أو تاريخ. ولكن رغم كل المصائب والنوائب سيبقى الشعب الفلسطيني متماسكاً صامداً، وسيبقى مكافحاً مدافعاً عن حقوقه حتى يعود إلى أرضه ويقرر مصيره بنفسه كباقي الشعوب الحرة في هذا العالم. * كاتب ومحلل سياسي