لم يعترف التاريخ الاسرائيلي الرسمي بما ألحقته حرب 1948 من دمار وخراب بالشعب الفلسطيني، وسكان المدن والقرى الفلسطينية التي احتلها الجيش الاسرائيلي وطرد سكانها ودمرها. وظلت الرواية التاريخية ذات صوت واحد يمجد تحقيق المعجزة الصهيونية وقيام دولة اسرائيل. وفي وقت تحتفل اسرائيل بذكرى مرور 50 عاماً على قيامها، يقف الفلسطينيون أمام ذكرى النكبة التي حلّت بهم، والتي طالما تجاهل المؤرخون الرسميون الاسرائيليون الاشارة اليها. فهي عادت لتطل على الاسرائىليين من جديد عبر اقلام لمؤرخين اسرائىليين جدد، قرروا رفض الصيغة الرسمية والبحث عن حقيقة ما جرى من جديد. قد تكون كتاباتهم مجرد محاولة لرسم صورة ما حدث، لكنها تبقى نموذجاً لسعي المؤرخ الى البحث عن الحق وسط غابة الاكاذيب والتضليل. تتناول هذه الرواية حرب 1948 في وصفها حرب استقلال، والمقصود استقلال دولة اليهود عن التاج البريطاني، وهي ايضاً حرب تحرير، اي تحرير اليهود من ظلم بلاد الشتات ونيرها. وتعتمد على مقولة اساسية مفادها ان ولادة الصهيونية جاءت نتيجة الاضطهاد الذي عاناه اليهود، وشكّل نشوء اسرائيل حلاً جزئياً لمشكلة اليهود في اوروبا. ولم تقصد الصهيونية الإساءة الى عرب فلسطين، فالاستيطان الصهيوني بجانب العرب لم يكن من وجهة النظر اليهودية يفترض احتكاكاً أو ترحيلاً. لكن اسرائيل وجدت نفسها داخل وسط عربي لا يعرف الرحمة، ووقفت الاقلية اليهودية، التي كانت في جزء منها مؤلفة من اليهود الذين نجوا من المحرقة، والذين بالكاد يستطيعون القتال، في وجه أكثرية عربية تتحضر لحرب ابادة ضد اليهود. فالفلسطينيون والدول العربية هم الذين رفضوا القبول بقرار التقسيم، وهاجموا اليشوف اليهودي بهدف اقتلاعه والقضاء على الدولة اليهودية في مهدها، وذلك بدعم من البريطانيين ومساعدتهم. وتورد الرواية الرسمية ان العرب خسروا الحرب بعد انتصار الهاغانا على المقاومة الفلسطينية أو العصابات بحسب الوصف الرسمي المدعومة من جيش الانقاذ، وما لبثت الدول العربية الخمس ان هاجمت الدولة اليهودية بجيوشها. وبهدف تسهيل هذا الغزو طالب زعماء الدول العربية الفلسطينيين العرب بترك منازلهم لفتح الطريق امام تقدم الجيوش العربية مما أدى الى نشوء مشكلة اللاجئين. ويشدد المؤرخون القدامى على الرغبة الشديدة التي كانت لدى زعماء اسرائيل خلال حرب 1948 وبعدها في تحقيق السلام مع الدول العربية. لكن العرب هم الذين رفضوا ذلك، وقضوا على جميع المبادرات والنيات الحسنة، وصمموا على تدمير اسرائيل. ويصف هؤلاء المؤرخون انتصار اسرائيل في هذه الحرب بوصفه معجزة تحققت بفضل براعة ديفيد بن غوريون، وبطولة الجنود في ساحة القتال. شكل الشعب الفلسطيني الغائب الاكبر عن هذه الرواية التي تجنبت ذكر الفلسطينيين الا بوصفهم عقبة كان على اليهود ان يتعاملوا معها. فلم تتطرق كتب التاريخ التي تدرّس في المدارس الاسرائىلية المتوسطة والثانوية الاشارة الى مأساة السكان الفلسطينيين للمدن والقرى الفلسطينية التي احتلها الجيش الاسرائيلي عام 1948. سعى المؤرخون الاسرائىليون الرسميون الى تقديم صورة مثالية عن السنوات الاولى لقيام دولة اسرائيل. واقتصر دور المؤرخ على اعادة بناء احداث "المعجزة الصهيونية". وبحسب وصف بيني موريس احد أهم المؤرخين الاسرائيليين الجدد في كتابه: "ما بعد 1948 - اسرائيل والفلسطينيون"، فان المؤرخين القدامى كانوا أقرب الى "مخبرين" ورواة اخبار، منهم الى مؤرخين، ولقد حاولوا تقديم تأويل تبسيطي اسرائيلي للماضي، متجنبين كل ما من شأنه ان يسيء الى صورة اسرائيل. فبالنسبة اليهم يأتي الحفاظ على اسرار الدولة قبل قول الحقيقة. وهم في صياغتهم لروايتهم اعتمدوا في صورة كاملة على المقابلات، والمذكرات الشخصية، والتقارير الصحافية، ولم يستخدموا الارشيف الرسمي. وهم انطلاقاً من هذه المادة عكسوا وجهاً أحادياً للحدث التاريخي، ولعبوا دوراً تبريرياً هدفه الدفاع عن إيديولوجيا الدولة والحكم. بدءاً من نهاية السبعينات، راحت تظهر كتابات اسرائيلية تأريخية جديدة، خرج فيها مؤلفوها على الرواية الرسمية المتعارف عليها، وأعادوا النظر في العديد من الافكار التي كانت من المسلمات. والأهم في اعادة النظر هذه، الاهتمام الذي أولاه المؤرخون الجدد للفلسطينيين ولانعكاسات حرب 1948 عليهم. فسعى هؤلاء الى اعادة كتابة احداث الحرب ليس من منظورها العسكري وتطوراتها الميدانية في ساحة القتال، وانما من منظورها السياسي. ففي رأي المؤرخ إيلان بابي ان على مؤرخ الحرب ان يولي اهتماماً أقل للتطورات العسكرية، وان يوجه انتباهه الى الوجوه السياسية لهذه الحرب. لان الحرب يقررها السياسيون من الطرفين قبل المواجهة الفعلية في ساحة القتال، كما ان فشل الاطراف في التوصل الى السلام في فلسطين مباشرة بعد الحرب هو السبب في استمرار الصراع. وانطلاقاً من هذه النظرة النقدية برز "لمؤرخون الجدد"، وهي تسمية أطلقت على مجموعة من البحاثة والاساتذة عكفوا منذ اواسط السبعينات على اعادة النظر في نشوء الدولة العبرية، وذلك انطلاقاً من موقف نقدي نظر الى الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية وليس حركة تحرير. وكان مكسيم رودنسون اول من نبّه الى هذه المسألة وعالجها في مقال له طويل نشرته مجلة جان - بول - سارتر "الازمة المعاصرة"، في عدد خاص صدر عام 1967. وحمّل المؤرخون الجدد اسرائيل كل الظلم والغبن اللذين لحقا باسرائيل نتيجة الحرب. ينتمي افراد مجموعة المؤرخين الجدد الى جيل ولد في اسرائيل بعد الحرب أو قبيلها، وكان للحروب العربية - الاسرائىلية، لا سيما حرب لبنان، ثم الانتفاضة الفلسطينية، أثرها السلبي، اذ جعلتهم يطرحون الكثير من الاسئلة والشكوك حول صدقية الايديولوجيا الصهيونية. ودفعهم هذا الى توجيه انتباههم الى دراسة السنوات الاولى لنشوء الدولة. أعاد المؤرخون الجدد كتابة حرب 1948 انطلاقاً من مادة أرشيف لم تكن متوافرة من قبل. فبدءاً من عام 1978 فُتح الارشيف الاسرائيلي والبريطاني امام الناس. ويات في مستطاع البحاثة الاطلاع على جميع مراسلات وزارة الخارجية الاسرائىلية من 1948 حتى 1957. هذا الى جانب الوثائق ومحاضر الجلسات، ومراسلات سائر الوزارات، بما في ذلك وزارة الدفاع والجيش. وحاول المؤرخون الجدد الاستعانة بالارشيف الفرنسي والاميركي لردم الثغر التي قد تعترض عملهم. ولم يكتفِ هؤلاء بالارشيف الرسمي، فعمدوا الى الاطلاع على مجموعة واسعة من الاوراق الخاصة ومذكرات العديد من الشخصيات السياسية، بالاضافة الى محاضر العديد من الاحزاب السياسية وتقاريرها. وحاول المؤرخون الجدد الاستعانة بالارشيف العربي والمصادر العربية، فواجهوا استحالة الوصول اليها. يقول بيني موريس: "رفضت الدول العربية ان تفتح أرشيفها المتعلق بحرب 1948 للمؤرخين العرب وغير العرب. ولقد بذلت كل ما في وسعي لتقليص "الدائرة المظلمة" وادخال الجانب العربي، وذلك باستخدام التقارير الصادرة عن الاستخبارات اليهودية، وتقارير الديبلوماسيين البريطانيين والاميركيين الذين عالجوا مسألة اللاجئين، والتي حاولت ان ترسم صورة ما حدث في القرى والمدن العربية في فلسطين خلال 1948"، في كتابه: "نشأة مسألة اللاجئىن الفلسطينيين، 1947-1949، كمبردج، 1987. وانطلاقاً من هذه المادة الجديدة، أعاد المؤرخون الجدد تأريخ حرب 1948 وما سبقها وما تلاها، داحضين للعديد من المقولات أو ما يسميه المؤرخون الجدد "الأساطير" الصهيونية التي رفعت خلال حرب 48 التي يرفض هؤلاء المؤرخون تسميتها حرب "استقلال" أو "تحرير"، ويكتفون بتسمية حرب 1948. وأولى الاساطير التي ينقضها المؤرخون الجدد ادعاء الزعماء الاسرائىليين ان قبولهم قرار التقسيم للامم المتحدة والصادر في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947، كان تعبيراً عن رغبتهم الحقيقية في التوصل الى تسوية تخلى فيها اليهود عن مطالبتهم بدولة يهودية على كامل أرض فلسطين واعترفوا بحق الفلسطينيين في اقامة دولتهم. يردّ المؤرخ سيمحا فلابن على ذلك قائلاً: "ان الابحاث التي قمت بها أوصلتني الى الاستنتاج بان هذا الموقف كان مجرد خطوة تكتيكية في استراتيجيا عامة هدفت الى الحؤول دون قيام دولة فلسطينية عربية، وذلك بالاتفاق سراً مع الملك عبدالله، ملك الاردن، الذي كان يحلم بضم الاراضي المخصصة للدولة الفلسطينية كخطوة أولى لتحقيق حلمه بناء سورية الكبرى. وكانت هذه الاستراتيجية تتطلع الى ضمّ الاراضي التي حددتها الاممالمتحدة الى الدولة اليهودية". وكان المؤرخ آفي شاليم تناول موضوع العلاقات السرية بين اسرائيل والملك عبدالله مطولاً في كتاب خصصه لهذا الموضوع. ويكذّب فلابن ما تزعمه الرواية الرسمية من رفض العرب قرار التقسيم، واستجابتهم لدعوة مفتي القدس الى اعلان الجهاد المقدس ضد اسرائيل. ويشير الى انه رغم معارضة الغالبية العربية قرار التقسيم فانها لم تسارع الى تلبية الدعوة الى اعلان الحرب على اسرائيل. فقبل اعلان قيام اسرائيل في 14 ايار مايو 1948، حاول العديد من الزعماء الفلسطينيين التوصل الى صيغة تعايش، لكن رفض بن غوريون قيام دولة فلسطينية هو الذي ساهم في الاستجابة الى دعوة مفتي القدس. تزعم الرواية الرسمية ان تهجير الفلسطينيين كان بسبب نداء القادة العرب وطلبهم من الفلسطينيين مغادرة قراهم ومدنهم في صورة موقتة تسهيلاً لدخول الجيوش العربية. لكن الواقع مغاير لذلك تماماً. إذ يؤكد بيني موريس في كتابه "ما بعد 1948"، انه حتى تشرين الثاني من عام 1948، لم يعثر على اي اثر لهذا النداء في الوثائق العائدة الى تلك الفترة. لكنه يشير الى النداءات التي عثر عليها والتي بثتها اذاعات عربية عدة كانت تطلب الى الفلسطينيين البقاء في قراهم والعودة اليها في حال مغادرتهم لها. وهذه النداءات موجودة في عدد من وثائق الهاغانا وحزب معام والوثائق الانكليزية العائدة الى شهر ايار 1948. ويشير موريس الى ان عدداً من الزعماء المحليين طلبوا في عدد من المناطق اخلاءها من النساء والاطفال. وهذا ما حدث مثلاً في شرق الاردن، وبعض قرى السهل والجليل وبيسان. ورغم ان بيني موريس يحمّل اسرائيل مسؤولية تهجير الفلسطينيين، فهو لا يجزم بوجود خطة صهيونية مسبقة ومعدّة سلفاً. ففي رأيه ان ما حدث من تهجير ونزوح كان عشوائياً، ونتيجة الحرب، وينفي وجود خطة شاملة وسياسة طرد رسمية على رغم اقراره بحدوث عمليات طرد بايعاز من السياسيين الاسرائىليين. اما سيمحا فلابن فيجزم بالعكس. ففي رأيه ان طرد الفلسطينيين حدث بناءً لخطة موجودة سلفاً فرضت ترحيل الفلسطينيين العرب الى الدول العربية. يرفض المؤرخون الجدد الادعاء الرسمي بان حرب 1948 كانت امراً لا يمكن تجنبه نتيجة رفض الدول العربية قرار التقسيم. ويذكر فلابن ان الوثائق تؤكد ان هذه الدول ظلت تفاوض حتى آخر دقيقة في شأن اقتراح اميركي يدعو الى هدنة مدتها ثلاثة اشهر، شرط ان تؤجل اسرائيل موقتاً اعلان استقلالها. لكن الحكومة الاسرائىلية الموقتة رفضت المشروع بأقلية ضئيلة من ست اصوات مقابل اربعة. في كتابه "ما بعد 1948"، يورد بيني موريس ان الحكومة المصرية عارضت طوال اشهر قبل ايار 1948 المشاركة في غزو فلسطين، ففي نظر القادة العسكريين ان الجيش لم يكن مدرباً أو مسلحاً في الشكل المطلوب للقيام بمثل هذه العملية. وان الملك فاروق اتخذ قراره بالسير الى الحرب متجاهلاً رأي جنرالات الجيش ورئيس وزرائه. وكان يهدف من ذلك الى أمرين: مراقبة الملك عبدالله، ومشاركته مجد تحرير الارض العربية والاسلامية، والوقوف في وجه قيام كيان شيوعي - صهيوني على الحدود المصرية. ويزعم المؤرخون الرسميون انه كان على اسرائيل خلال الحرب، وهي الضعيفة والصغيرة، ان تواجه جيوشاً عربية تفوقها عدة وعدداً. لكن المؤرخين الجدد يؤكدون عكس هذه المزاعم. فقد بلغ تعداد رجال الهاغانا، حملة السلاح، 35 الف مقاتل، مقابل 25 وحتى 30 الف جندي عربي. وكان لدى الهاغانا في شهر ايلول سبتمبر 1947 ما مجموعه 489،10 بندقية و702 رشاشاً خفيفاً، و2666 رشاشاً متوسطاً و186 رشاشاً ثقيلاً. وكان ادى اليشوف اليهودي صناعة عسكرية متقدمة فقد انتجت مصانع الهاغانا في تلك السنة ثلاثة ملايين طلقة و150 الف قنبلة و60 الف مسدس. ويشير وليد الخالدي في مقدمة الترجمة العربية لكتاب "حرب الاستقلال 1947 - 1948" الى ان الاسلحة كانت تتدفق من أميركا وفرنسا وبريطانيا. ففي شهر آذار مارس 1948 تمّ شراء 13 طائرة من أميركا و50 مجنزرة على انها معدات زراعية. ومن أهم الصفات العسكرية التي عقدت في تلك الفترة التي اشترى فيها اليشوف اليهودي 20 طائرة اوستير بمبلغ 8500 جنيه استرليني، الى جانب 25 طائرة ميسر شميدت من تشيكوسلوفاكيا فضلاً عن اسلحة مختلفة اخرى بينها 50 مدفع ميدان، و25 مدفعاً مضاداً للطائرات. كل هذا وغيره يدحض صورة لا تقبل الشك مزاعم الصهيونية في شأن ضعف اليشوف، وتعرضه لخطر الابادة والاقتلاع من جانب الجيوش العربية. ورغم ان تعداد اليهود في فلسطين قبل الحرب لم يتعد 650 الف نسمة، يقابله 2،1 مليون فلسطيني ونحو 30 مليون عربي في الدول المجاورة، فلقد حضر اليشوف نفسه في صورة جيدة للحرب، في حين ان الجيوش العربية لم تفعل ذلك. أما الحجة الاخيرة التي يفضحها المؤرخون الجدد فهي التي تقول ان اسرائيل كانت مستعدة دائماً لاقامة السلام لكن الدول العربية هي التي رفضت الاعتراف بها. ويؤكد فلابن ان اسرائيل رفضت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى 1952 جميع المقترحات التي قدمتها الدول العربية للتوصل الى تسوية. ففي اواسط تموز يوليو 1949 أُثر عن بن غوريون قوله "لست مستعجلاً من اجل التوقيع على اتفاقية سلام، فنحن لسنا معرضين لأي ضغط من اي نوع كان، وفي استطاعتي الانتظار عشرة اعوام اخرى". أولى المؤرخون الجدد اهتماماً كبيراً لمشكلة اللاجئىن الفلسطينيين التي اعتبروا انها نتيجة مباشرة للحرب ولقيام دولة اسرائيل. وحاولوا اعادة تركيب الوضع الذي نشأ في فترة النزوح الذي استمر عشرين شهراً من كانون الاول ديسمبر 1947 حتى تموز عام 1949. قبيل عام 1947 كان المجتمع الفلسطيني فلاحياً في معظمه مع شريحة مدينية واسعة. خلال سنوات الانتداب وبتأثير من النفوذ البريطاني، وقيام المجتمع اليهودي وتطوره جنباً الى جنب مع المجتمع الفلسطيني، بدأ مركز الثقل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ينتقل من الريف الى المدينة. وشهدت المدن نزوحاً فلاحياً كثيفاً. في الوقت ذاته ظلّ الريف الفلسطيني يرزح تحت وطأة الفقر والتخلف، وبقيت الوسائل المستخدمة في استثمار الارض بدائية ويدوية، في وقت بدأت المستوطنات اليهودية الزراعية باستخدام الطرق الحديثة في استغلال الارض ومنافسة الفلاحين الفلسطينيين على الارض والمياه والمحاصيل. اما على الصعيد الاجتماعي، فكانت ملكية الارض في ايدي عائلات تعيش اما في لبنان واما في مصر وسورية. وكان الفلاحون في قراهم في شبه اكتفاء ذاتي منقطعين عن محيطهم، يدينون بالولاء الكامل لعشيرتهم، وليس لهم تمثيل سياسي سوى مختار القرية. لم تعرف القرى الفلسطينية صيغة للتعاون ما بينها لمقاومة الهاغانا. فغالباً ما كانت هذه القرى تتنازعها خلافات عشائرية على الارض. ولم يتحضر الفلاحون للدفاع عن انفسهم، فلم يقوموا بتجميع السلاح ولا بتخزين المؤن. ولم تكن لديهم خطة عسكرية أو قيادة في استطاعتها ان تقودهم أو تنظم صفوفهم. في مقابل ذلك، برز اليشوف كمجتمع متقدم سياسياً واقتصادياً ويتمتع ببنية عسكرية متطورة. مع بدء الاشتباكات، ازدادت الضائقة الاجتماعية والاقتصادية وضغطت على حياة الفلسطينيين، فارتفعت الاسعار، وارتفعت نسبة البطالة، وبدأ شعور العرب بانعدام الأمن يزداد مع تكاثر الاخبار عن قرب انسحاب الجيش البريطاني، الامر الذي أدى الى نزوح تدريجي برز في صورة خاصة في طبقة اصحاب المهن والمتعلمين من الاطباء والصيادلة، والمحامين، ورجال الاعمال والتجار. وكان لهذه الهجرة أثرها السلبي على معنويات السكان الذين لازموا مدنهم. وعندما انسحب البريطانيون وبدأ سكان المدن بالنزوح، ترك ذلك أثره في سكان الريف الذين عمدوا هم ايضاً الى الهجرة لا سيما اثر اخبار المذابح والفظائع التي ارتكبها الجنود الاسرائىليون في كل مدينة عربية دخلوها، مما أثار بسرعة الخوف والهلع. ويعتبر بيني موريس ان سبب 55 في المئة من هجرة الفلسطينيين يعود الى الهجمات والعمليات التي قام بها رجال الهاغانا والإرغون، الى جانب التأثير الذي كان لمذبحة دير ياسين. ويجمع المؤرخون الجدد على ان سياسة اسرائيلية تبلورت فوراً عقب اعلان الاستقلال وقضت بمنع اللاجئين من العودة الى قراهم ومدنهم. فلقد شدد بن غوريون على ضرورة عدم السماح للاجئين بالعودة، وشكل لجنة أطلق عليها اسم "لجنة التمويل" مهمتها الاهتمام بموضوع اللاجئين والحؤول دون عودتهم لانهم سيشكلون في رأيه طابوراً خامساً. في وقت كان اللاجئون الفلسطينيون يحملون حقائبهم وصررهم ويتجهون بخطوات ثقيلة شمالاً وشرقاً، كان اناس آخرون يحملون حقائبهم وصررهم وخلفهم نسوة يسرن مترنحات تحت وطأة الصراخ والاولاد يبحثون عن مأوى في المدن العربية المهجورة. كان هؤلاء مهاجرين يهوداً جدداً يبحثون عن موطىء قدم لهم في مدن وقرى ومنازل ما زالت تحمل آثار مأساة أهلها الذين هجروها منذ وقت قليل على أمل عودة قريبة.