يطرح الناقد الأمريكي ريتشارد غيلمور في كتابه «ممارسة الفلسفة في السينما» بالصفحة 69، مسألة التَّغَطرُس الأمريكي، ويذكر أن الاستخدامات الأولى لمفهوم الغطرسة Hubris كانت عند الفلاسفة اليونانيين القدماء مرتبطة بالثراء المادي، وبالتحديد «عندما تصبح القوة المالية سلطةً تستخدم لتغطية الجهل». وللتوضيح لا يقصد غيلمور بالجهل افتقار المعرفة، ولكن يقصد افتقار الأخلاق، و عدم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، بل والإصرار بعنجهية متطرفة على ادعاء الكمال. وفي تاريخنا المعاصر تكاد تكون أمريكا بنظامها الرأسمالي الحر هي النظام الوحيد الذي يسمح للافراد بامتلاك ثروات مالية طائلة تتجاوز أموال نسبة كبيرة من البشر، وأغنى أغنياء العالم هم من أمريكا، وعدد الأغنياء من الدول الأخرى لا يتجاوز عدد الأصابع بما فيها روسيا والصين. أما أغنياء أمريكا فهم وارن بافيت، وإيلون موسك، وجيف بيزوس، وبيل غيتس، ومارك زوكربيرغ، وهلم جراً. ودائماً يتم التسويق لأغنياء أمريكا بفكرة «الحلم الأمريكي»، وأن هذا الحلم هو الطريق الذي ساعدهم في تحقيق غاياتهم، والوصول للثروات المالية الضخمة. ولذا بالإمكان إدراك معنى الغطرسة إذا نظرنا إليها داخل السياق الاجتماعي الأمريكي. يشرح غيلمور أن فيلم فارغو Fargo 1996 للأخوين كوين من أهم الأفلام التي تناقش معنى الغطرسة و أنها نتيجة من نتائج الحلم الأمريكي. ولا تكون الغطرسة من صفات الفقراء لأنها مرتبطة بالسيادة المالية، أما الفقراء فشعورهم الدائم بنقص الموارد وعدم الأمان يجعلهم يتذكرون حدودهم وحدود الحياة من حولهم، ولكن من يطمح لتحقيق الحلم الأمريكي بالوصول لحد الثراء الفاحش، فإنه ينسى حدوده. وخصوصاً إذا كان يعرف من حوله أشخاصاً حققوا الحُلم، ووصلوا طبقة عالية من الثراء. يحكي فيلم فارغو قصة رجل أمريكي اسمه جيري، يؤمن بالحلم الأمريكي، ويطمح لتحقيق هذا الحلم، ولكن لا يستطيع النجاح دون الحصول على مبلغ مالي يساعده في تطوير تجارته بمجال بيع السيارات. وبالتالي يقرر تأجير عصابة تتكون من مجرميّن لأجل خطف زوجته ومطالبة والدها الثري جداً بمبلغ مالي في سبيل إرجاع ابنته سالمة. ولكن تحدث الصدمة وتفشل خطة جيري عندما يقرر الرجل الغني أن لا يضحي بأي هللة من ثروته المالية، حتى لو كلفه ذلك التضحية بابنته. ثم يدخل الفيلم لمناطق سردية متشابكة ومعقدة، تقود في النهاية كنتيجة حتمية إلى مستويات خطيرة من العنف، مثل العنف الجسدي واللفظي والنفسي. و يصبح الفيلم صراع بين فكرتين، أحدها تتجسد في شخصية جيري وهو يطمح للوصول للحلم الأمريكي لدرجة دفعته للتضحية بزوجته من أجل بعض النقود، والأخرى تتجسد في شخصية الرجل الثري الذي يملك الحُلم الأمريكي ولا يريد أن يفرط به. فلا يخاطر الرجل الثري ببعضٍ من ثروته لأنها مصدر قوته، ولأنها الوعاء الذي يستخدمه لتغطية جهله وكل عيوبه. و يجسدان كلاهما نموذجين متشابهين لشرور النظام الرأسمالي. المرجعية التي يستخدمها غيلمور في تحليل الأفلام هي مرجعية فلسفية بحتة لذا يطرح أولاً هذا السؤال: «مالذي يحتاجه جيري؟» ثم يجيب: «الشيء الذي لا يملكه جيري، وهو بأشد الحاجة إليه؛ ليس النقود، ولا الأراضي، ولكن الفلسفة.» ص73. وبذلك يقصد غيلمور معرفة النفس، والقدرة على تصحيح الأخطاء، و ممارسة ملكة التدبر، ومراجعة النفس، و تقبل النقد، والاقتناع بما يملك، ولو فعل ذلك سيعرف جيري حدود حياته، ولا يتجاوزها بل سيرتقي للوصول للخير، ويبتعد عن الشر. وشخصياً؛ أتصور أن المشكلة الأساسية هي في طبيعة الحلم الأمريكي والذي يأتي معه مقدار من الأنانية، والفردانية، التي تجعل الإنسان لا يفكر إلا في تحقيق أحلامه المادية الخاصة، وبذلك يفقد إنسانيته، ويعيش داخل أوهامه وخيالاته التي تجعله بالضرورة يغفل عن الواقع من حوله، ويسقط في الهاوية. وكما يقول جورج كارلين: «يسمونه الحلم الأمريكي، لأنك يجب أن تكون نائماً حتى تصدّقه». وفي فيلم فارغو يصبح الحلم الأمريكي كابوساً مرعبا. توجد كثير من الأفلام الأخرى التي تناقش قُبح الحلم الأمريكي، ومنها فيلم المؤسس The Founder والذي يحكي سيرة حياة مؤسس سلسلة مطاعم ماكدونالدز الشهيرة من بطولة الممثل الرائع مايكل كيتون. ويظهر الفيلم قُبح التاجر الجشع، والذي يحفزه النظام الرأسمالي على الطمع والأنانية. فبالتالي يصور الفيلم أن مطاعم ماكدونالدز لم تكن تجارة شريفة بل عملية سرقة ضخمة. لأن مؤسس ماكدونالدز أخذ جهد أخوين، ونشر أسلوبهم في صناعة الأكل، وأجبرهم على تغيير اسم محلهم، بل و فتح مطعماً أمام مطعمهم الأصلي، وصار مصيرهم الخسارة والإفلاس. ولم تخلو شخصية مؤسس ماكدونالدز من الغطرسة حتى في تعامله مع زوجته، والتضحية بكل من حوله. ** **