في الماضي كان جمع الأموال أمراً بالغ الصعوبة، والآن أصبح البقاء مفلساً من دون الدخول في نادي المديونين هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الجميع. يتحدثون هذه الأيام عن تركز رؤوس الأموال في أيدي قلة قليلة من الناس، في حين تبقى الغالبية الساحقة من دون شيء سوى الديون، بات واضحاً للجميع أن الطريقة التي تسير بها الأمور لا تؤدي إلا إلى مزيد من التركيز على الثروات بحيث يزداد الأثرياء ثراءً وتقل أعدادهم، فيما يزداد عدد المفلسين وتتضاعف ديونهم، العزاء الوحيد للمفلسين والمديونين هذه الأيام هو أن الجيل المقبل سيطلق عليهم جيل الرواد! يقال إن علم الإدارة المالية هو فن تحريك النقود من يد إلى أخرى حتى تختفي تماماً، تحريك النقود نعرفه جيداً، فبمجرد أن تحط النقود في يدك تمتد إليك الكثير من الأيادي، بعضها تعرفه وبعضها نسيته، بعضها يتوعدك وبعضها يغريك ويستدرجك، وكلها تطلب منك أن تناولها النقود من أجل أن تستمر لعبة التحريك. الجزء الذي لم أعرفه حتى الآن هو أين تذهب النقود؟ فمثلاً عندما تنهار سوق الأسهم يقولون إن الخسائر بالبلايين، ويكون ذلك نهاية لعبة التحريك، إذ تتبخر النقود، فلا أحد يخبرك أين ذهبت؟ ولا من هم الرابحون؟ لذلك لابد أن نلجأ للتخمين، فمثلاً نستطيع القول إن النقود تصل لليد الأخيرة التي لا تمتد إليها أيدٍ تطالبها بمواصلة التحريك، في هذه الحال تنتهي اللعبة! هذه نظرية ونظرية أخرى هي أن الموضوع هو مجرد أحلام وهواجس بالثراء، تنتهي حين يستيقظ الجميع في يوم انهيار السوق! سمعت أحد المنكوبين في سوق الأسهم، بعد أن أورثه الإفلاس الحكمة، يصف تجربته في سوق الأسهم بأنها شبيهة إلى حد بعيد بطريقة عمل النحل في الحقل، تستطيع به أن تصنع ما تشاء من العسل، ولكن الآخرين لا يدعونك تحتفظ به، وفي كل مرة يتم تجميع العسل بها تنضم أفواج جديدة لنادي المفلسين والمديونين. يكثر الحديث عن المخاوف من موجة كساد مقبلة، هو أمر طبيعي أنه عندما تشفط السيولة من المستهلكين فإنهم لن يجدوا ما ينفقونه وستتباطأ المبيعات ويتهاوى مؤشر الاستهلاك... الوصفة التقليدية المعروفة في مثل هذه الظروف هي خفض نسبة الفائدة وتشجيع الاقتراض، ولكن السؤال المهم هو هل تشجيع الاقتراض هو من أجل إنعاش الحركة الاقتصادية وتحريك السلع الراكدة من الرفوف؟ أم أنه لتشغيل الغلات الجديدة من السيولة؟ هل هو تعاطف وخدمة للمفلسين الجدد؟ أم هو لخدمة مصالح الأغنياء الجدد؟ أعتقد وبكل صراحة أن كلا الاحتمالين وارد جداً. بدواعي الجهل أو المصالح أو بكليهما يحاول البعض تقديم النظام الاقتصادي المهيمن على العالم، الذي يدعى الاقتصاد الرأسمالي وأحياناً الاقتصاد الحر، وكأنه الواقع الوحيد المتاح ويتم التعامل مع نظرياته وافتراضاته وكأنها حقائق ثابتة لا يرقى إليها الشك، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فالموضوع ببساطة هو مجرد تنظيمات وقوانين وضعت لتحفظ مصالح من وضعها، وحتى هذا الهدف البسيط لم تستطع الوفاء به! خلال الأشهر الماضية حدث ما لم يكن متوقعاً، إذ أدت أزمة الرهن العقاري في أميركا وتداعياتها ومشكلات مالية كبيرة أخرى في مناطق متعددة من الدول الغربية إلى انهيار فعلي لمؤسسات مالية عملاقة، وكان السؤال المطروح هو هل يتم الالتزام بقواعد اللعبة وبجوهر نظرية الاقتصاد الحر، وهو عدم التدخل وإعطاء الفرصة لقوى السوق الطبيعية لإعادة التوازن ومعالجة الأخطاء؟ الجواب بالطبع كان"لا"كبيرة، إذ تدخلت الحكومة الأميركية لإنقاذ المؤسسات المالية العملاقة من الانهيار، وقدمت لها وبشكل عاجل أكثر من 40 بليون دولار، وضمانات أخرى في تناقض سافر مع كل ما كانت تروج له طوال السنين الماضية، لقد أعادت كتابة نظام الاقتصاد الحر بطريقة جديدة بالغة الوضوح، وهي أنه عندما يفلس المواطن فعليه أن يتحمل عواقب ذلك بشكل منفرد، وأن يتحمل تبعات قراراته الخاطئة... أما حين تفلس مؤسسة مالية عملاقة أيضاً نتيجة لقراراتها الخاطئة، فيجب أن يتحمل الجميع تبعات ذلك! المنطق ليس من مفردات الاقتصاد الحر، لذلك على الجميع أن يجدوا طريقة لبلع فكرة أن هناك مصلحة في أن يهب الجميع لمساعدة المؤسسات العملاقة إذا تعثرت، وفي الوقت ذاته يتوجب عليهم الحذر من التدخل لمساعدة المواطن البسيط إذا تعثر، لأن ذلك ينسف النظام الحر من أساسه! يجب عدم التدقيق كثيراً في فكرة أن الكبير هو من يستحق المساعدة، أيضاً الاقتصاد الحر يعني تحرير أسعار السلع والخدمات، وفي الوقت ذاته تقييد الأجور إلى أقصى حد ممكن... يزدهر الاقتصاد الحر عندما تزداد الهوة بين ما يحصل عليه العامل، وبين ما يحتاجه للوفاء بمتطلبات معيشته البسيطة، وكلما توسعت الهوة اضطر للاقتراض وللعمل ساعات أطول، وهذه من الوصفات الجيدة للازدهار الاقتصادي! وللإنصاف فإن هناك زيادات خجولة في الأجور من وقت لآخر، ولكنها لا تهدف إلى التخفيف من معاناة العامل ومساعدته في ردم الهوة بين أجره وبين نفقاته، بل المقصود منها تبرير موجة جديدة من الزيادات - غير الخجولة - في مثل هذه الظروف، عندما يتعثر المواطن البسيط وتخطئ حساباته، فالملاذ الوحيد المتاح له - بعد الله - هو أن يحاول النظر للجانب الطريف في مأساته، ويتقبل الخسارة بروح رياضية، وهذا ما يفعله المسكين منذ زمن طويل. أحد ضحايا سوق الأسهم علق بروح رياضية جميلة على مأساته قائلاً: على رغم أن سوق الأسهم كانت سيئة للغاية، إلا أنه استطاع أن ينام كالأطفال تماماً، كل ساعة يستيقظ ويبكي! [email protected]