يقف مؤسس بورصة الخامات الاولى في روسيا "كونسطنطين بوروفوي" - اغنى رجل في روسيا - بارتياح شديد لا يخفيه امام عدسات الكاميرات التلفزيونية متخذا اثناء ذلك مختلف الاوضاع. وبينما يدلي بآخر ارائه حول افاق تشريع الملكية الخاصة، يركز المصورون المحليون بلقطات مكبرة على حركة يده بالساعة السويسرية الثمينة وهي تمتد الى جيبه ليخرج منه علبة سجائر ماركة "مارلبورو"، بينما لم يكن كبار قيادات الدولة منذ سنوات معدودة يدخنون الا سجائر لا يصل ثمن العشر علب منها الى سعر علبة واحدة من التي يدخنها الآن "بورفوي" بعدما صار سعر علبة المارلبورو حالياً يزيد على المصروف اليومي لعائلة متوسطة الدخل. وعلى العموم فقد اصبحت السجائر الاميركية اليوم بطاقة شخصية يتعرف بها افراد الطبقة الميسورة الى بعضهم في روسيا. المرحلة السابقة وقد عرفت روسيا في المرحلة الشيوعية السوق السوداء، ورجال تلك الحقبة الذين كانوا يتعاملون بملايين الروبلات سراً، يفضلون ان تظل ثرواتهم ايضاً سراً، كان نشاطهم ممنوعاً بحكم القانون. وكان الروس، في ما مضى، يعتزون بأن مجتمعهم يخلو من الفوارق الاجتماعية الصارخة، وكانوا يضحكون حتى تدمع عيونهم من رواية "العجل الذهبي" التي يحاول فيها احد المحتالين ابتزاز الاموال من مليونير كان يرتدي ارخص الملابس ويتناول طعامه في ادنى المطاعم خشية ان يفتضح ثراؤه غير المشروع! اما اليوم فقد تبدلت الاوضاع مائة وثمانين درجة، وامسى الاغنياء الروس يجدون متعة في اظهار ثرائهم وانفاق اموالهم بترف وبذخ على مرأى من الملايين من الفقراء الذين يحيرهم ان الشيوعية قد انتهت بالنسبة لهم، بينما لم تشملهم نعم الرأسمالية بعد! وعلى الرغم من ان الحكومة قد اطلقت اسعار السلع منذ كانون الثاني يناير الماضي، وان اسعار الغالبية من البضائع قد قفزت بمقدار مائة مرة، الا ان المحلات التجارية التابعة للحكومة ما زالت تعرض على الناس سلعها الرديئة هي هي، والتي تفتقد للتنوع والجودة معاً! وما زال الناس يقفون كما في السابق في طوابير طويلة مرهقة ليتمكنوا من شراء الخبز، ناهيك عن الجبن واللحوم المثلجة. ومع ذلك فإن "اقتناص الطعام" الذي يستغرق ساعات عدة يومياً من ارباب الاسر التي يتراوح دخلها شهرياً ما بين 15 و30 دولاراً، لا يمثل مشكلة على الاطلاق للاغنياء الروس الجدد وعائلاتهم. ذلك ان زوجاتهم، واحياناً خدمهم يصلون الى "محلات خاصة" بالاثرياء، ويشترون في دقائق معدودة ما يريدونه مقابل اية اسعار خيالية بالروبلات، او - اذا لزم الامر - بالدولارات في محلات "السوبر ماركت" الاجنبية التابعة لشركة "ستوكمان" الفنلندية او محلات شركة "البيت الايرلندي" حيث يجدون مختلف انواع الكافيار انتهاء بكافة اصناف الثمار والفواكه الافريقية الغريبة! وهم يفعلون ذلك بإسراف شديد يعد في اوروبا علامة على سوء الادب وقلة التربية وسمة من سمات "محدثي النعمة". وتعليقاً على تلك الظاهرة قال احد الديبلوماسيين الغربيين: "انهم يشعرون ان زمنهم قد حل، ويبدون وكأنهم يسعون للانتقام من السنوات التي اضطروا فيها للعيش سراً دون ان يستمتعوا بأموالهم". الانتقام من الماضي ويسارع اليوم من تراكمت رؤوس اموالهم في الخفاء في المرحلة الشيوعية الى توظيف تلك الثروات في مجالات التداول الشرعية، بعد ان "راكموها" من مختلف العمليات غير المشروعة كالاتجار بالعملة الصعبة والمخدرات زمن بريجنيف، حتى اصبحوا حالياً يسيطرون على غالبية المحلات والدكاكين الخاصة والمؤسسات الصغيرة في مجال الخدمات، وهم يقومون عبر تلك القنوات بما يسمونه الروس "غسيل الاموال"، وبعد ذلك تتجه الاموال للمشروعات الاكبر حجماً والاثقل وزناً. وتقدر دوائر الشرطة في روسيا ان المجرمين الجنائيين السابقين هم الذين يحتكرون الآن تجارة الشوارع في موسكو كلها، ومع ان تجارة السجائر والمشروبات المستوردة يدر عليهم دخلاً لا يحلم به الكثيرون، الا ان غالبيتهم لا ينظرون الى نشاطهم هذا الا باعتباره مجرد ستار يحجب نشاطهم الحقيقي المربح فعلاً: تجارة المخدرات التي يتسع نطاقها يوماً بعد يوم. وقد نبهني احد رجال الشرطة قائلاً: "اذا رأيت في "فاترينات" وواجهات المحلات الليلية الحقنة التي تستخدم لمرة واحدة جنباً الى جنب مع باقي المعروضات، فاعلم ان تلك الحقنة هي اشارة لمستهلكي المخدرات، معناها ان الصنف موجود هنا لدينا"! هذا مع العلم بأن رجال السوق السوداء الذين يدور الحديث عنهم - والذين يعيدون للذاكرة صورة "القطط السمينة" بشارع الشواربي في القاهرة في اواخر السبعينات، لا يمثلون الا جزءاً صغيراً من طبقة الاثرياء الجدد الناشئة. اما الوجه الاخر لتلك الطبقة فهو فئة السماسرة التي لا تعد ولا تحصى من اولئك الرابضين ليل نهار في بورصات روسيا التي فاق عددها بمرات عدة بورصات دول اوروبا كلها مجتمعة! وقد كدس بعض رجال الاعمال "الناجحين" - وبخاصة من اشتغل منهم في تصدير الخامات - ثروات هائلة بفضل ضربات الحظ السعيدة، وعمليات الوساطة، الا ان عدد الذين لم ينجحوا في بيع مسمار واحد - رغم جهودهم المستميتة وابتهالاتهم - يزيد بكثير عن عدد المسامير المضروبة في اية عمارة شاهقة في موسكو! هل تحتاج الى دبابة؟ واذا كانت موسكو اليوم تحفل بالغرائب، فلا تستغرب اذا عرض عليك خدماته النادل الذي يقدم لك الطعام في مقهى ليلي، او سائق التاكسي الذي ينقلك بالصدفة من مكان لآخر، او حتى بروفيسور متخصص في الادب الاوزبيكي تعرفت اليه في ندوة عن "الثقافة المعاصرة". ان اياً من اولئك يمكنه ببساطة متناهية ان يسألك: ترى هل انت بحاجة لدبابة؟ او ربما تعوزك الآن طائرة حربية حديثة؟ ذلك ان انهيار الدولة، وعمليات البيع الجارية ليلاً ونهاراً، والارباح الضخمة من الوساطة والثرثرة، قد نشرت في جسم المجتمع، وفي نفوس الجميع حمى "البيزنيس"، وحمى البحث عن الذهب في جيوب الاجانب! لكن الاغلبية الساحقة من اولئك الوسطاء هم من الافراد الهواة الذين ينامون ويستيقظون على اطياف جبال خضراء من الدولارات، بينما لا تتوفر لديهم اية خبرة بما يعرضونه، ولا الاتصالات اللازمة لذلك، وكل ما في الامر انهم سمعوا بأن صديقاً بعيداً له قريب ابعد يعرف صديقاً مجهولاً يعمل في مصنع للطائرات الحربية ومن المشكوك فيه ان يصبح اولئك الحالمون اثرياء في يوم من الايام. بينما حقق افراد النخبة الحزبية الشيوعية السابقة نجاحاً لا غبار عليه في رحلتهم على درب الانضمام الى الاثرياء الجدد، وغالبية افراد هذه المجموعة هم من اولئك الذين كانوا يشغلون مواقع هامة في الحزب، ووقعت تحت تصرفهم اموال ضخمة لا تعد مثل كنز "قارون" تركها خلفه الحزب الشيوعي وهو يتراجع منسحباً عن مقاعد السلطة. ويلحظ الكثيرون ان عدداً كبيراً من زعماء "الثورة" بالامس يتولون اليوم زعامة "الثروة" الروسية الناشئة، فالكثيرون منهم صاروا رؤساء للشركات الاستثمارية المختلفة، والبنوك التجارية المختلفة، وينشغل معظمهم - شأنهم شأن السماسرة المحترفين - في عمليات بيع النفط او الاخشاب، الى جانب تحويل ارباحهم الى البنوك الاجنبية خارج روسيا حتى بلغت ايداعات الروس في الخارج وفقاً لبعض التقديرات ما لا يقل عن خمسين مليار دولار. وتكتمل عضويات "نادي الاغنياء الروس" بفئات اخرى غير الشيوعيين القدامى، والسماسرة، والعناصر الاجرامية، ورجال "البيزنيس" الصغار، وتجار "الشنطة" الذين يسافرون في رحلات دورية الى الصين وتركيا وسنغافورة، اذ تشرع في الانضمام الى ذلك النادي فئة جديدة غريبة هي رجال "النخبة" العلمية الروسية التي رفعت الاتحاد السوفياتي السابق ذات يوم الى غزو الفضاء اذ انهم يجدون حالياً انفسهم - ومرتب الفرد منهم لا يزيد عن خمسة عشر دولاراً - مضطرين هم ايضاً للحركة في السوق كي لا يموتون جوعاً، فيلجأ بعضهم لعرض كل ما لديه من اختراعات وتقنية عالية وخبرات على الاسواق الاميركية والغربية! ومن ناحية اخرى فإن النظام الذي ما زال الكثير فيه يتوقف على "الدولة" وعلى "الموظفين" الذين بوسعهم ان يمنحوا او يمنعوا التصريحات بالتصدير او منح تراخيص لتخصيص قطعة ارض ليبني عليها المستثمر الروسي فندقاً فاخراً او مؤسسة مالية، ان هؤلاء الموظفين يمثلون حلقة هامة من حلقات الثروة الروسية الناشئة، ولا يخفي رجال الاعمال انهم يضطرون في كل خطوة قانونية الى خرق القانون و"رش" الاموال والرشاوى لانهاء اعمالهم مع اولئك الموظفين. وقد شكا "زاور شيروزيا" 40 عاماً مدير احدى الشركات الصغيرة للاستيراد والتصدير بقوله: "لقد اصبت الرشوة نوعاً من انواع الضريبة. وامسى كل رجل اعمال يتصرف وفقاً للمثل الروسي: "شيلني وأشيلك". اخيراً ينتمي للاغنياء الجدد اولئك الروس الذين يعملون في الشركات الاجنبية والممثليات والشركات المختلطة ويتقاضون رواتبهم بالعملة الصعبة، بالكامل او جزئياً. وتتسع هذه الفئة لتشمل المترجمين ومستشاري التسويق، والسكرتيرات، والسائقين، بل والحراس الشخصيين الذين يتم اختيارهم من بين الرياضيين السابقين لحماية اصحاب المشاريع من مخاطر المافيا المنتشرة. وعلى الرغم من ان الشريحة العليا من الاغنياء الروس هي من اصحاب الملايين، الا ان احداً لا يعرف بالضبط اعداد هذه الطبقة الا اللهاث وراء عدد السيارات ماركة "لينكولن" الاميركية او "فولفو - 920" السويدية بما تحتوي عليه من تلفونات، وتسهيلات، والتي يتراوح سعر الواحدة منها في موسكو ما بين سبعين الى مائة الف دولار. لكننا اذا تركنا الشريحة العليا من هذه الطبقة، سنجد أن الغالبية العظمى من اغنياء روسيا هم "اغنياء" بالنسبة لروسيا فقط. وهم وفقاً لمعايير اوروبا الخاصة بالثراء، فإن مستوى حياتهم لا يزيد عن مستوى حياة "الطبقة المتوسطة الاوروبية" ولذلك فإنهم - خلافاً لاصحاب الفولفو - يستخدمون السيارات المرسيدس المستعملة والقديمة والتي يسعها مع ذلك ان تبهر عيني المواطن الروسي البسيط! ووفقاً لما نشرته صحيفة "كوميرسانت" الروسية فإن عدد الاغنياء الروس يصل الى ثلاثة ملايين شخص يعيش ثلاثمائة الف منهم في موسكو، ومائة وخمسون الفا في بطرسبورغ. وتفيد الاحصائيات ان اعمار معظم الاثرياء الروس في المتوسط في حدود الاربعين ويصل الدخل الشهري الى 23 في المئة منهم الى حوالى سبعمائة دولار، ويكسب 12 في المئة منهم الف واربعمائة دولار في المتوسط، اما من تتجاوز دخولهم الفي دولار فلا تزيد نسبتهم عن ثلاثة في المئة فقط. عودة الى ما قبل 1917 وعلى الرغم من ان الرأسمالية الروسية اليوم كثيراً ما تقارن بمرحلة التراكم الرأسمالي الاولى في الولاياتالمتحدة، الا ان اغنياء الروس قلما يشبهون ابطال روايات الكاتب الاميركي "تيودور درايزر" الذين كانوا يدخرون بحرص كل "سنت" يكسبونه، واغلب الظن ان اثرياء روسيا يشبهون رعاة البقر في افلام "الكاوبوي" او شخصيات فيلم كوبولا الشهير "العراب" تلك الشخصيات التي تعشق الاستمتاع الوحشي باللذة والتبذير. وعندما يحل الليل، وتقفر شوارع موسكو المكسوة بالثلج، ويسارع المارة المتأخرون خطاهم للعودة الى بيوتهم خشية المجرمين، ينطلق اصحاب السيارات الفاخرة يشقون ظلمة الليل بأنوار مصابيح سياراتهم متجهين الى حانات اللهو حيث يقف عند ابواب هذه الملاهي "تشريفاتية" من الرجال ضخام الجثة، الذين تلفهم المعاطف المزركشة بخيوط ذهبية، فينحنون انحناءة يكادون ان يلامسوا بها الارض، ويفتحون الابواب على مصراعيها امام ممثلي العالم الجديد، بالضبط مثلما كان الحال قبل ثورة 1917 الشيوعية!. وفي مثل هذه الليالي الصاخبة، يستولي الاعياء على الروبل من جراء المنافسة المرهقة مع الدولار، فيغط في نوم عميق، بينما يسيطر البنكنوت الاخضر اللون طيلة الليل حتى مطلع الفجر في الملاهي والحياة الليلية الموسكوفية. الأكثر من ذلك ان المراقب لمشهد من حياة الليل هذه، يمكنه ان يجد كل ناحية من نواحي حياة "رعاة البقر" باستثناء ترويض الخيول. وفي هذا المضمار فان المكانة الاولى دون منازع تعود لمطعم "سنترالي" المركزي الواقع في قلب موسكو، ومن الطريف انه كان المطعم المفضل لزعماء الاحزاب الشيوعية الاوروبية في عهد ستالين. من كوكب آخر واذا راعينا ان اكثر من خمسين في المئة من المواطنين الروس البسطاء قد صرحوا في استطلاع اخير للرأي العام بأنهم يسدون حاجاتهم الاساسية بصعوبة بالغة، وان تسعة في المئة قد اشتكوا من انهم يعيشون دون مستوى الفقر، فمن البديهي ان يبدو الاغنياء الجدد بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب وكأنهم كائنات آتية من كوكب آخر، ومما يغذي هذه الفوارق الاساطير التي يسمعها البسطاء عن ابناء جلدتهم الذين صاروا يقضون فترة الصيف ليس في مصايف القفقاز بل في افضل المصايف العالمية مثل ميامي بيتش الاميركية او شواطئ جنوبفرنسا، او جزر الباهاماس. الاكثر من ذلك ان المليونيرات الروس - خلافاً لما اشتهر به السياح الروس الفقراء - اصبحوا لا ينزعون حقائبهم بالقوة من ايادي الحمالين ليتفادوا دفع بقشيش لهم. وتنظر الغالبية العظمى من الناس البسطاء لفئة الاغنياء الجدد هذه، باعتبارها مجموعة من المحتالين، ولذلك كثيراً ما يقوم بعض اولئك المغتاظين بالتعبير عن احتجاجهم بخدش طلاء السيارات الفاخرة بمسمار غالباً ما يخط للاغنياء الجدد كلمة بذيئة لا تتناسب مع الماركات الاوروبية للسيارات! ولكن هناك قسماً اخر من السكان، يمكن القول انه اكثر "تسيساً" ما زال يعتقد ان هذا الكابوس الرهيب هو حلم صيف موقت سرعان ما ينقضي، وانهم سرعان ما سيفيقون منه ليعودوا الى احضان الدولة السابقة التي كانت توزع عليهم الخيرات وان كان شحيحة ولا يتم انتزاعها الا بالطوابير الطويلة! ويتجمع اولئك من وقت لآخر في مظاهرات حاشدة رافعين الرايات الحمراء، والشعارات التي تنادي بالعدل والمساواة ولكن من الذي يستمع اليهم؟ ان روسيا قد لا تحب اغنياءها الجدد، وقد تلعنهم او تصدهم، والسرّ في ذلك انها تحنّ الى تلك المساواة المفقودة التي لم تكن الا مساواة الجميع في الفقر. ان روسيا في حقيقة الامر تحنّ الى "الزمن الضائع"، الذي انطوى دون ان يفهم المواطن البسيط سرّ ما جرى!. اما ابناء الجيل الجديد فانهم كفوا عن الاقتداء بأبطال الثورة كنماذج يحتذى بها واخذوا يشقون طريقهم لمفاهيم جديدة، وقد صرح ثلث تلاميذ المدارس في استطلاع للرأي العام اخيراً بأنهم يريدون ان يصبحوا "رجال اعمال" ليمارسوا "البيزنيس" الذي صار علامة فارقة لعصرنا الحديث.