في روايته الثانية يؤكد الشاعر والروائي عبدالله ناجي أنَّ الإبداعَ يرتكزُ على قوانين منها: قانون اللغة، وقانون الصورة، وقانون الجنس الأدبي، إذْ تعدُّ هذه القوانين ثابتةً في الروايتين، فالخشية التي تلاحقه منذ أنْ أصدرَ روايتهُ الأولى تجاوزهَا بروايته الثانية، فتأكدتْ القوانين الثلاثة عبر امتلاك اللغة، والامتلاء بالصورة الشعرية، والاحترام لسردية الرواية، فتشكلت نحو الكشف عن وعي الراوي بالمعرفة الأدبية عموماً، والسردية على وجه الخصوص في تحريك الأحداث والشخصيات داخل الرواية. جاءت الرواية الثانية بعنوان حارس السفينة كاشفةً عن ثنائيات مهمَّة؛ لعل أبرزها اليقين وغيراليقين، والواقع والخيال، والصمت والكلام...، والظلام والنور، هذه الثنائيات باتت مترددة في كثير من مفاصل الرواية، فحارس الظلام مثلاً ينير الفضاءات، وحارس الصمت يلجأ إلى الكلام والصراخ والحكايات، والروح الشاعرة تتأرجح بين منطقتي اليقين وغيراليقين في رسم صورة شعرية ثم بترها لإحلال الدلالة المغايرة، إذ تعد المنطقة الإبداعية الأكثر حضوراً عند المبدعين المتمرسين في الكتابة الإبداعية إلا أنَّ الثنائياتِ لا تتحرك إلا وفق محركين هما: الزمن، والحدث. البدايات: تعد العتبات في النص الإبداعي؛ الكاشف الأول للتلقي منذ لحظة اختيار الغلاف والعنوان والصورة والإهداء والإشارة والمحتوى والتاريخ والبداية النصية؛ كل هذه الركائز تتشكل لبناء بدايات قوية في الرواية، فيأتي الغلاف مؤكداً للعنوان من خلال اللون الزبرجدي الممزوج بين لوني زرقة البحر ولون السماء، والظلال السوداء الطفيفة الواقعة في مناطق الظل، والصورة المصاحبة للسفينة المتكئة على جانبها؛ وكأنها أرادت أن تسرَّ للأمواج والأثباج بأسرار المياه وذاكرة الغرق!! فيتضافر الغلاف مع العنوان الأكثر دلالة على بطل الرواية، ف (محمود) استحال إلى حارس للسفينة مصادفة دون أن يعلم، فتوافق العنوان مع الحارس الأمين لسفينة مقبورة على سطح الماء، غارقة في الزمن عبر سنوات طويلة. فالدلالات اللسانية الأولى تنبع من العنوان؛ لكونه يمثل عقدا في التلقي بين المبدع والقارئ، فالمبدع يملك الاختيار والقارئ يبحث عن تحقق الاختيار بين العنوان ودلالاته الحاضرة في النص الروائي. في العتبات تتجلى أهمية الدار الناشرة للعمل الروائي، فالرواية صادرة عن دار مسكيلياني؛ دارٌ تونسية تعنى بالأعمال الروائية في كثير من انتاجها عالمية وعربية، تؤمن بالتخصص الإبداعي والنقدي والفكري، فكانت هذه الرواية ضمن سلسلة مسارات (علامات في الرواية العربية) يشرف عليها الشاعر والناقد رَمزي بن رحُومَة. ولعلَّ الرواية عندما تحظى بالنشر عبر هذه الدار المتخصصة المحترفة الإنتاج الروائي يعلي من شأن الرواية ويحقق التلقي الجيّد بوصف العمل إبداعاً أولاً ثم سلعةً تجارية. الإهداء «إلى الآخر الذي تقمصني ذات غياب. وأملى علي هذه الحكاية، ولم يكن منّي سوى الكتابة». يمثل الإهداء بُعْدًا من أبعاد العتاب المهيئة للنص الروائي، فالرواية مهداة إلى الآخر، ومن يكون هذا الآخر أهوَ خارج الرواية أم داخلها، أهوَ «هرمان ملفِل»؟ مثلاً، أم الرجل الغريب داخل الرواية؟ أم الآخر القابع في ذاكرة الغرق؟! تشير الدلالات بانفتاح نحو هذا الآخر المحفز للرواية وقراءتها. ثم تتعمق العتبات نحو إشارة مهمة لكاتب أمريكي يدعى هرمان ملفِل كتب رواية موبي ديك، الرواية التي اقتطع منها إشارة قد شكلت فهما خاصا يتعلق بدلالة الظلام، وأهمية المسؤولية تجاه السفينة وحراستها؛ بل الأرواح كذلك. الإشارة هنا اتخذت منحى تقدميا نحو الولوج إلى النص وفق رؤية استراتيجية يستبق فيها الروائي النص بدلالة توجيهية نحو الخوض في غمار الرواية. لكنها ليست إشارة عابرة؛ بل هي من العمق بمكان، إذ تتجلى دلالات عميقة حضرت في النص، قد تكون انتقلت بوعي أو بدون وعي الكاتب اللاحق للكاتب السابق، فلو تأملنا الإشارة والرواية المنقول عنها هذا (النص اليسير) لأدركنا أهمية التناص الحاصل في الرواية، فمثلاً في رواية موبي ديك: يصف هرمان ملفِل الناس القادمين نحو شاطئ البحر، والمتأملين للبحر والسفن أنهم (حراس صامتون) نهاية كل إجازة أسبوعية، دلالة مهمة في اختيار عنوان الرواية اللاحقة (حارس السفينة) والبداية النصية لمحمود الهارب من المدينة إلى البحر للتأمل والبحث عن حرية نهاية كل أسبوع؛ وإن كانت دلالة غير صريحة إلا أنَّ هناك دلالات أخرى أكثر عمقاً، منها: المقولة الواردة في الإشارة السابقة، ومقولة أخرى: «التأمل الفكري والماء قرينان إلى الأبد». ثم لو تأملنا ذاكرة الاسترجاع (الفلاش باك)؛ لرأينا أن الروايتين تقومان على الشك والتوجس والخيبة في بعض الأحيان!! وتتمثل الذكرى قسوة الزمن الذي يمثل مرتكزاً ظلامياً في ذاكرة العودة للوراء!!. كما أن هذه الذاكرة تتكئ على حوار الذات كثيراً في الروايتين. ودلالات العنونة وارتباطها بالأحداث. إلا أن رواية حارس السفينة ابتعدت عن موضوع رواية موبي ديك؛ فبدت مستقلة بنفسها في الموضوع والأشخاص والأحداث وبنت مسارها الخاص بها. ومما يتعلق بالعتبات النصية الإشارة الخاصة بالمحرر الأستاذ أيمن مبروك في الصفحة الأخيرة من الرواية؛ وكأنها إضاءة من أجل توطيد العلاقة بين القارئ والرواية؛ ثمَّ لتؤسس الإقناع في جذب القارئ إلى النص الروائي، وإعطاء بُعْدٍ موضوعي في التوجيه الخارجي للرواية. فشكلت الإضاءة الشفيفة قراءة عميقة للنص الروائي، ولخصت ما قالته الرواية بتكثيف عالٍ، واكتفت بإلماحة خاطفة إلى الثنائيات المركزية في الرواية. البداية النصية استفتاح حدثيٌّ يقوم على رسم مشهد محمود حين يخرج من منزله سالكاً الطريق المتجهة نحو البحر في بقعة نائية عن المدينة، فالانتقال من فضاء إلى آخر يشي بالرحلة من الضجيج إلى الصمت، حيث الهدوء والتأمل في قضاء ليلة ممتعة على شاطئ البحر، فقد تشكلت البداية في رواية حارس السفينة تشكلا يقوم على الحدث والزمن. دلالات العنونة وفضاءات الأحداث دلالات العنونة في النص الروائي لها أبعاد متصلة ومنفصلة؛ إذ هي تبدو منفصلة في كل حدث من الأحداث ذات العنوان الخاص، فكل عنوان يشكّل حدثاً ما!! فحين وصل محمود بحر الشعيبة استقبله الظلام، واحتضنه الصمت، ولاذ بالوحدة متأملاً النجوم وصوت هدير الأمواج المتكسرة على روحه المنهكة!! لكن هذه الدلالات كما بدت منفصلة إلا أنها سرعان ما ينتظمها خيط الاتصال؛ فتتصل لبناء وحدة مترابطة تقوم على ركيزتين: ركيزة الضاغط الزمني، وركيزة الحدث الرئيس. تدور فضاءات الأحداث السردية في مكان يتردد بين الألفة والوحشة، في ضوء الثنائيات القائمة على اليقين وغيراليقين، فتتجلى عبقرية اللغة والبناء التصويري لكل حدث حين يسترسل الروائي في بناء الأحداث بين سرد المعلومات التاريخية والتأملية والعلمية حيث البنى السردية المعطاة ومن ثم الانتقال بها إلى الاختلاف، فما يبنيه الروائي في الأحداث يتشكل في وعي القارئ خطاباً يتأسس على فهم خاص، وقد يكون مختلفا!! ولربما يلجأ الروائي إلى الاختزال، ويختزل حين يجسد الاختزال بُعْدًا معمارياً في بناء الأحداث المختزلة والمكثّفة. تتأسس الأحداث السردية على حوار بين محمود والغريب، فهذه الليلة تمثل انتقالا في حياة محمود الهارب من المدينة والبيئة الطاردة إلى البحر والفضاء المفتوح والمطلق، فبعد أن رأى السفينة تخرج من العدم حال الضوء، وتتجلى في الحقيقة أمام عينيه؛ كان الحوار بينهما اختلاساً أحياناً، فالرجل الغريب يحكي ومحمود ينصت، فتأسست هنا علاقة التابع بتابعه، حتى إن الغريب بات معلماً وأستاذاً لمحمود، وما إن غابت ملامحهما في الظلام، حتى غدت أمنية محمود في إشعال أضواء السيارة مرة أخرى؛ لكي يظفر بهذه السفينة، حيث بات التعلّق بها محفزاً نحو معرفة الكثير من المعلومات الخاصة بهذه السفينة التي دهش حين رآها تتجلى أمامه لأول وهلة، فهو كم تردد على الشاطئ، ولم يرها من قبل، فكيف ظهرت من العدم!! رسم حولها العديد من التصورات الخاصة وفق ما يمليه الرجل الغريب، والزمن يسير ببطء نحو الانتقال من حدث إلى آخر!! يتجلى في الظلام حدث الفئران في منطقتين: الأولى؛ حيث كانا يجلسان على السجادة الحمراء في حوار عن السفينة يتخيل محمود الأوجه الغريبة عبر ذاكرة الاسترجاع؛ فيعود للوراء متذكرا بعضًا من وجوه علقت بذاكرته تتقاطع مع أوجه الفئران!! والمرة الثانية حين داهمته الرغبة في الرقص خلف الظلام، ابتعد عن الغريب، فتوارى في الظلام وانطلق يعدو كي لا يراه صاحبه!! حتى وقف في مكان لا يراه الغريب ولا يسمع رقصاته أحد!! دار حول ذاته مرتكزا على جسده، بينما اتخذت روحه السفينة مركزاً لها!! كانت حاضرة الفئران متسلقة ساقه المرتكزة على الأرض، فزاد من سرعة دورانه كي تتناثر عن جسده، حينها شعر بالأعياء والتعب والترنح فسقط مغشياً عليه!! سقط فاقدا للوعي وللغريب وللحياة، سقط في عالم البياض، فالشعور الضاغط على لذة الرقص مثّل دلالة في العنوان!! كما أن دلالة الرؤية للسفينة حضرت عنواناً لهذه اللحظة التنويرية في النص، لحظة البهاء والتجلي لسفينة الفهد، السفينة الحلم والحقيقة، الحدث المؤثر في سيرورة الرواية، فما إن أشارت الساعة الثانية صباحاً إلا عشر دقائق، أدار الغريب محرك سيارته مستعد للرؤية ولكشف الحجاب متوتراً في لحظة الاستعداد، بل امتد التوتر إلى محمود وهو يرمق تحركاته ثانية بثانية منتظران اكتمال الساعة الثانية بالتمام، فكانت اللحظة الدالة على مشهد عظيم محاطا بالبهاء، فلجأ الكاتب إلى تجسيد المشهد التصويري بأحاسيسه وزواياه وعتمته ونوره؛ متخيلاً السفية عروساً في موكب زفافها!! ثم تتوالى دلالات العنونة الأخرى لتكشف عن أهمية حضور الأحداث وفضاءاتها المتنوعة الدالة على الأحاسيس الداخلية، فلو تأمل القارئ دلالة: الغريب، والرغبة الدفينة، والرؤية، واللذة، والشك، والمجنون... يبدو أن هذه الأحاسيس لها دلالات تتصل بأحداثها، كما أنها تتصل بالبناء السردي القائم على الشعور الداخلي. الثنائيات والتشكّل الزمني حارس السفينة رواية تقوم على الثنائيات والتشكّل الزمني، فالقارئ للرواية يشعر بأنه إزاء ثنائيات أسست حضورها في بناء الرواية على مستوى السرد والشعر معاً، فما تبنيه اللغة القصصية في الحوار والسرد والوصف يتكثف في الصور الشعرية القائمة على الاتفاق لبناء مشاهد سردية مترابطة لارتباطها بالتشكل الزمني. فالتشكل الزمني يقوم أساسًا على استثمار الليلة الواحدة لحكاية حياة محمود ونقطة التحول في حياته، هذا الإحساس بالزمن كان إحساساً بالزمان؛ الزمان الممتد في حياة محمود وفي حياة الغريب، وهو ما أراد تشكيله الراوي في صناعة الزمن الطبيعي والنفسي داخل الرواية. فالثنائيات حاضرة في الوعي السردي لدى الكاتب منذ الإهداء للآخر؛ فلابد من تتبع ثنائية «الأنا والآخر» في النص الروائي، فيتجلى في الرواية أنا «محمود» والآخر الغريب، محمود وزوجته، محمود والآخرون!! ثم ثنائية «الصمت» والضجيج والحكي والكلام والصراخ!! إذ حاول الكاتب أن يقابل «الصمت» بمفردات تنتشله أحياناً من عالم الصمت والتأمل، ففي مملكة الجان استسلم محمود للصمت؛ حتى غدا معتاداً على صمت هذه الليلة، حد التماهي مع كائنات الظلام، ابتعد عن الغريب متسائلاً عن كينونة الغريب، متخيلاً أنه من الجن، فيتجلى الحوار القائم على التجريد، فيستخلص أسئلة من ذاته؛ ليجيب عنها! فخيالاته والأساطير التي سمع بها عن هذا المكان شكلت انشطارًا إبداعيًا؛ ليسرد الحكايات التاريخية عن الجان وما يتصل بها من حكايات سمعها في حارات مكة!! محاولاً طرد هذه الأفكار حتى بدت تتلاشى وتتبخر تماماً، بمجرد أن تذكر كأس الشاي الذي شربه وأحرق يده: فقال: «الجن لا يشربون الشاي.. وهذا الغريب قدم ومعه صبارة شاي، وليس كوباً واحداً!». إلا إن كثيراً من الخواطر سرعان ما تشتت الصمت والاستمتاع بالوحدة؛ فتكون العودة إلى الصمت في المقابل هي عملية الإنقاذ الوحيدة. ثم تتجلَّى ثنائية «الظلام والنور» التي تعد الأكثر حضورًا وارتباطاً بالزمن والزمان في الرواية، فتعد هذه الثنائية من حيث التأثير مفتاحًا من مفاتيح الرواية. ومنذ لحظة التقاطع في الوعي السردي بين رواية «موبي ديك» ورواية «حارس السفينة»؛ ثمَّةَ إشارة أشارَ إليها عبدالله ناجي في جزء سردي من رواية هرمان ملفِل: « يا ابن الظلام! عليَّ أن أودّي واجبي نحوك. أنا شريك في هذه السفينة وأحس بأني مسؤول عن أرواح بحارتها جميعاً»، إذ يجد المتتبع لمفردة الظلام في رواية حارس السفينة حضورًا طاغيًا على المستوى الطبيعي والنفسي، فالظلام يتكرر كثيراً في ثنايا النص، حتى غدا ركيزة من ركائز الرواية، فلا يحضر النور إلا لماماً في مواطن الصباح والنهار زمن طبيعي معلن!! ثم في مواطن يختبئ وراءها الزمن النفسي، ويكون محركا لها في مواضع منها: الخلاص والبهاء ورؤية السفينة! الرواية من الأعمال الروائية الحديثة المكتوبة وفق رؤية مكثفة ووعي سردي متفرد، الوعي بالمعرفة والسرد والكتابة الإبداعية، وحضور الشاعرية، إذ تحضر الشاعرية في موضعين: لغة القص وبناء الصورة. رواية حارس السفينة، عبدالله ناجي - دار مسكيلياني - تونس 2019. رواية موبي ديك، هرمان ملفِل، ترجمة د. إحسان عباس - دار المدى - بيروت 2014. ** **