في يوم من أيام عام 1985 قررت ألا أذهب إلى المحاضرة. سأذهب إلى مكتبة جامعة أم القرى. تبعني الأصدقاء إلى باب المكتبة محذّرين من عدم تهاون الدكتور فتحي أبو عيسى في الغياب. لم أهتم بما هددوا به. ليكنْ ما يكون. كان قراراً لا رجعة عنه. ولم أكن أعلم أنني اتخذت قراراً سيكون له بالغ الأثر في مستوى دراستي الجامعية، إذ تدهور تحصيلي الصفّي، وانحط معدّلي التراكمي إلى مستوى حافظت فيه على ألا أُفصل من الجامعة لكي أحصل على مكافأتها. من تلك اللحظة يذهب الطلاب إلى المحاضرة، وأذهب إلى المكتبة أقرأ ما لم يقرّره الأساتذة، وحيث يحافظون على حضورهم غبت عن المحاضرات. وفي القليل الذي كنت أحضره لم تنفع معي تهديدات الأساتذة بالرسوب. وإلى الآن ما زلت أتذكر الأستاذ الذي قال لي: « الجامعة ليست ملجأ لك ولأمثالك». ولقد قابلته منذ فترة قريبة، وأردت أن أذكّره بما قاله لي، لكنني سكت. أهملت «واجباتي» كطالب جامعي، وانهمكت في القراءة. ولأنني أقرأ ما لم يكن الأساتذة يقررونه، فقد رسبت في ما أظن أن لا طالب جامعي قبلي رسب في عدد المواد التي رسبت فيها. بعضها كان بسبب الغياب عن الامتحان، لا لشيء إلا لأنني سهرت أقرأ كتاباً. ثم تخرّجت بصعوبة، وبمعدّل (جيد)، وهو معدل منخفض لا يؤهلني لكي أتابع الدراسات العليا فيما لو فكرت في ذلك. لست نادماً. وما أردت أن أقوله في هذه المقدمة القصيرة جداً أن القراءة ليست من دون مقابل. كما أني أردت منها أن تكون مدخلاً لسلسلة من المقالات سأنشرها هنا بين حين وآخر تحت عنوان واحد هو: (كُتب عُمْري)، وهي مقالات تنتمي إلى تجربتي في القراءة المحاطة بالقلق، قبل قراءة الكتب وأثناء قراءة الكتب، وبعد قراءة الكتب. ولكي أؤكد أن القراءة ليست لذة خالصة تستهلك بسرعة كما لو أنها سهلة المنال. على أنني أبْصم على تأكيد (أنطوان كومبانيون) في مقالته الممتعة «قلق القراءة» بوجود نوعين من الكتب: كتب تخرج منها متغيراً للأبد، وكتب أخرى عكس ذلك، والكتاب الذي يتركك كما أنت ليس في الحقيقة كتاباً جديراً بالقراءة. *** حين بدأت أقرأ لم أكن آبه بأي نظريات نقدية، ولا تيارات ولا آيديولوجيات. لم أكن إلا مجرد شاب في ال20 من عمره يريد أن يعيش كما يجب أن يعيش الشباب. يقرأ ليفهم ويستمتع إلى أن تلوّثتُ فترة من الزمن صادفتْ أن قرأت فيها رواية الكاتب الأميركي هيرمان ملفيل «موبي ديك» - كان ذلك في عام 1989 -. لقد تغيّر العالم منذ ذلك الوقت وتغيّرت معه قراءتي. قرأتها أول مرة وأميركا في عزّ جبروتها. وقد صاحب هذا الجبروت «انتصارها» في الحرب الباردة. وقبل هذا وذاك كنت قرأت ردّات فعل عربية من مثقفين مناضلين - عرفت فيما بعد ضآلة نضالهم - وكان من الطبيعي أن تكون أميركا عندي إمبريالية معدومة الضمير والأخلاق. كانت مرحلة غريبة من حياتي. شعور بالنضال من غير أن أناضل. فقط نضال في الخيال. وهْم أكثر وهماً من وهم دينكوشوت. لم أنتم لليسار فعلياً، ولم أحاول أن أبحث عمن يمثله، لكنني تعاطفت مع أفكاره عن الرأسمالية، وعن الطبقة المطحونة التي تتحمل أعباء المجتمع من دون أن تستمتع بميزاته. ربما لأنني شعرت بأنني من هذه الطبقة، والوعي هو وعي الضرورة بأن نثور. الآن وأنا أكتب، ما زلت أتذكر من تلك المرحلة من حياتي حديث كارل ماركس عن أن ماهية سمك النهر هي ماء النهر، وأن ماء النهر يكف عن كونه ماهية السمك حين يتلوث. ومن إيحاء العبارة بأن ماء النهر تحول إلى وسيط وجودي لا يلائم السمك. اعتقدت بأن كل شيء حولي ملوّث ولا يلائم وجودي مثل سمك نهر كارل ماركس، والسبب هو أميركا. أما لماذا أميركا؟ فلأنها حصن الرأسمالية المكين، وفيما لو سقطت فإن الرأسمالية البشعة لن تقوم لها قائمة. على خلفية هذه الأفكار الغريبة لي الآن، قرأت رواية موبي ديك ونظرت إلى الرواية على أنها حكاية معقدة ومجازية عن المشروع الأمريكي، وكيف شعر الكاتب هيرمان ملفل وهو يكتب موبي ديك بأن بلده أميركا تشعر بعظمتها، وأنها تبحث عن مشروع عالمي كقوة كونية. وتلازمت عندي آنذاك صورة القبطان بصورة أميركا، وصورة الحوت الأبيض بصورة بالعالم. كنت أتخيل هرمان ملفل يخاطب نفسه قبل أن يكتب كل فصل: «إنها حقاً حكاية من الحكايات التي تُروى عن صعود إمبراطورية ولدت منذ أقل من ثلاثة عقود»، يتوقف ليفكر ثم يواصل: «اروها وأفض في الحكي». ولقد أفاض فعلاً إذ حكى عن كل شيء في تلك السفينة الغريبة التي لم أجد لها شبيها آنذاك سوى عنكبوت ضخم وبدائي يخوض البحار والمحيطات لا سابحاً، إنما هو من الضخامة أن يمد أرجله إلى قاع المحيطات والبحار حاملاً على ظهره الكون ومرضه. لم أهتم في تلك القراءة الأولى بمن روى الرواية، ولا أين ولا متى. تجاهلت حضور السارد. إنما اهتممت بكل الذين ساهموا في النشاط السردي، كالقبطان والحداد والنجار والزراق.. إلخ. في الورشة المتنقلة كل له دوره المحدد، يتحكم فيهم طاغية يحب التّفلسف والتأمل والتفكير. ولم يكن من الممكن أن تذكرني السفينة بجمهورية أفلاطون التي يحكمها الفلاسفة، إنما بالقبطان الذي قدمه دليلاً على قصور الانتخابات، ذلك أن لا أحد ينتخب قبطانا لكي يقود السفينة. آنذاك تعاطفت مع الضابط (استاربك) الملاح الذي يشبه الخادم الذي تبع أحد القادة الرومان المنتصرين. تحكي الحكاية أن أحد القادة المنتصرين كان يطوف روما القديمة. أحياناً يسير خلف هذا القائد خادم مهمته فقط أن يقول للقائد «تذكر الموت» وهذه دعوة إلى التواضع، كما أنها تساعد القائد في تدبّر الأمر بحيث يزن الأمور والقرارات التي يتخذها في إطارها الصحيح. يشبه استاربك الخادم الروماني، بينما يشبه القبطان آخاب القائد، لكن لا حياة لمن ينادي استاربك. لا يخلق تحذير استاربك أي أثر عند آخاب الذي يمتص ما يقوله استاربك ويتلاعب به، ثم يخرسه ويحوله إلى مستهلك للموت، فالحياة تغلف الموت، والموت ينسج الحياة. الموت هو عاقبة القبطان الخيّرة التي يتمناها، والتحية الأولى للنائي والبعيد والموحش المائي الذي يبحر نحوه. *** قلت قبل قليل إن هذه الأفكار التي قرأت في ضوئها رواية موبي ديك تبدو لي غريبة الآن. هذا صحيح. وأظن أنني لم أكن الوحيد، ونحن نعرف الآن ما الذي حدث في العالم العربي للأحزاب الشيوعية والمتعاطفين معها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا بد من أننا نتذكر الآن تراجعات بعض المناضلين الشيوعيين العرب، وليس مراجعاتهم الفكرية لأسس النظرية التي اعتنقوها، وهو ما أثبت إيمانهم الهش بما اعتنقوه، وأن ما كنا نقرؤه لم يكن سوى جعجعة وليس طحناً. تعود غرابة أفكاري آنذاك إلى أن الدراسات التاريخية لوثائق الحرب الباردة لم تشر إلى أن الماركسيين السوفيات أرادوا تصدير الثورة، والثابت أن «لينين» تخلّى عملياً عن ذلك لإيمانه بالنصر النهائي للاشتراكية التي تدعو إلى الصبر في مواجهة المعارضة. وفي سبيل هذا ابتكر مفهوم «التعايش السلمي»، وحتى لو كان هذا المفهوم تكتيكاً إلا أنه يسمح بأن يتعايش النظامان الاشتراكي والرأسمالي، وهو التعايش الذي لم أكن أتخيله في تلك المرحلة من حياتي. حين أتذكر ما كنتُ عليه من النضال الوهمي وازدراء الرأسمالية لا أصدق أن «ستالين» تبنى المفهوم ذاته «التعايش السلمي» على أساس أن الاتحاد السوفياتي يستطيع أن يصارع وحده، وأن يبقى وحيداً إلى أن تقوم الثورة الاشتراكية «المحتّمة»، وكذلك كان الأمر مع «برجنيف» وهكذا، بينما كانت الآيديولوجية لا تحمل القادة الأساسيين (لينين وستالين وبرجنيف) عبء تصدير الثورة، وإن كانت تحضهم على ذلك، وبينما كانت جملهم السياسية الرنانة التي تستند إلى الماركسية الثورية مجرد دفع تُهم خيانة لينين، كنت أرزح تحت عبء آيديولوجيا الثورة. اليوم وقد انتهى كل شيء، أصبح بإمكاني أن أفهم أن ما كنت أعتقد أنني أناضل بقلبي لأجله في أضعف إيماني به، كان في حقيقة الأمر «سوء فهم». نعم سوء فهم، وإدراك خاطئ من كل جانب لآيديولوجية الآخر، فإشارات كل طرف كانت تُفهم في ضوء أسوأ الاحتمالات. فهم مسؤولو الكرملين أن أمريكا تريد أن تتوسع، لأنهم لم يجدوا تفسيراً لإنفاق أميركا مبالغ خيالية لمجرد أن تنقذ اقتصاد رأسمالي آخر، وفهم مسؤولو البيت الأبيض أن الاتحاد السوفياتي يتوسع في العالم ويؤثر في نظام عقائدي شامل. بينما الحقيقي هو مفهوم «التعايش السلمي»، إذ إن كلا منهما يتوقع انتشاراً لأفكاره، لكن أياً منهما لم يوص بتحرك عدواني. إذاً ما حدث هو سوء فهم أنتج تأويلاً في ضوء أسوأ احتمال، ولم أكن لأصدق لولا أن هذا خلاصة رأي (روبرت مكنمارا) في كتابه الصغير والمفيد «ما بعد الحرب الباردة»، لاسيما أن الرجل لم يكن نكرة في تلك المرحلة، فقد كان جندياً ووزيراً للدفاع، ورئيساً للبنك الدولي، ودارس معْتبر لسياسات الدفاع. *** هل خرجت عن موضوعي؟ لا، ذلك أن سوء الفهم الذي تحدثت عنه عند سياسيّ الكرملين والبيت الأبيض يحدث أيضاً في قراءة الكتب، وكما نعرف الآن فتأويل النصوص (الهرمينوطيقا) ينتج من سوء فهم (شلير ماخر)، وأكثر من ذلك أن القراءة ليست مجرد البحث عن المعاني في النصوص، إنما هي أيضاً جوانب تأثير النصوص في القارئ (دايفيد جاسبر)، إذ يمكن لنص ما أن يغضب القارئ أو يخيفه أو يعزّيه وهو ما يطلق عليه (الأدب كفاعلية). وعليّ أن أعترف الآن أن قراءتي رواية موبي ديك آنذاك أغضبتني، ولم يخفف من غضبي إلا تحطّم السفينة وغرق من فيها ماعدا الراوي (إسماعيل)، الناجي الذي سرد لي نهاية الغطرسة كما فهمت آنذاك. *ناقد وروائي سعودي.