لدي من قرائي فريقان؛ أحدهما يستحثني في النقد، ويشجعني عليه؛ بل يدفعني إليه دفعًا، ويتهمني بأنني مجاملٌ إلى أبعد حدود المجاملة، وعفّ أن يقول: إنني مداهنٌ إلى أبعد حدود المداهنة! بل رفق بي وقال: إنني أراعي مصالح خاصة، أو أنني أخاف أن اقتحم الصعود إلى قمَّة الجبل فأهوي من شاهق، أو أنني يصيبني الرعب أو شيء من الرعب أو ما قريب منه فلا أوجه سياط قلمي حين يحتد هذا القلم إلى من بيده القرار؛ بل إلى من يُنفّذ القرار، ويذهب هذا الفريق في تقريعي ما شاء له هواه فيحملني ما يرغب أن يقوله هو؛ ولكنَّه لا يستطيع البوح به أو ببعضه أو بجزء يسير من بعضه، ويريد مني أن أنهض بمهمة قول ما يضطرب به داخله من عتاب حينًا ومن سخط في أحيان كثيرة على أجهزة الدولة، أو على الدَّوْلة نفسها حين لا تحقَّق له كل ما يتَمنَّاه أو تتوق إليه نفسه من وسائل الرَّفاهية ورغد العيش! أما الفريق الثاني فلا يراني كما رآني سابقه؛ بل يذهب إلى أنني أبالغ في انتقادي جهاز الحكومة، وأسرف كل الإسراف في تلمس وجوه النَّقص والقصور، وكأنني اشتهي تقصِّي تلك الوجوه من المثالب اشتهاءً لا رغبة في النقد لإصلاح ما يعتورها من خطل وفساد وسوء تنفيذ؛ بل يميل إلى أنني ذو نفس جُبلت على الانشغال بمعاودة القول في الجانب السَّيئ القاتم من الصُّورة في كلِّ أموري، فأنا -في نظر هذا الفريق -أميل إلى التشاؤم أو أن نفسي قد جُبلت عليه، فتنصرف عن المشرق البهي الأخاذ والرائع إلى المعتم القاتم الكئيب والكابي، وهذا لا ينم عن صحة نفسية على كلِّ حالٍ -كما يَرَى هذا الفريق المبالغ -ويَرَى أن رؤيتي ينقصها التوازن والثِّقة والأمل الحسن والفأل الطيب والاستبشار بالمستقبل الجميل واستحضار كل ما هو إيجابي، والانصراف عن التوَّقف عند العثرة أو الكبوة أو الخطل أو النقطة السوداء في الثَّوْب الأبيض الناصع! والحق أنني لست كما يراني الفريق الأول المتجافي عن نقد الأكابر إلى الأصاغر، والخائف من قول ما يجب قوله مراعاة لمصلحة أو مغنم، والمتناكب عن تعرية الحقيقة المختبئة تحت زخارف القول وتكاذيب المنتفعين. ولست أيضًا كما يظنه الفريق الثاني المتشائم المتسقط العثرات والزَّلات الذي لا يَرَى من الكأس إلا نصفها الفارغة ويغض الطرف عن نصفها الملآن! لست هؤلاء ولا أولئك! بل أنا شيء من هؤلاء وأولئك! فلدي ولاءٌ مطلقٌ خالصٌ لقيادة هذا الوطن واعتقادٌ مطمئنٌ واثقٌ لا أحيد عنه بأن من واجبات الولاء والإخلاص السعي إلى اكتمال اللوحة الجميلة النابضة بالحياة، وتحري الوقت المناسب، وانتهاز الفرصة السانحة، متى ما كان من المصلحة لفت الانتباه إلى وجوه النَّقص لمعالجتها، وغضّ الطرف عن ذلك متى ما كان ظرف الوطن أو أمنه أو مصلحته أو الحفاظ على سمعته من التنقص أو التقليل من قيمته أو السُّخْرية أو التندر بما يمكن أن يلحظ من عيوب أو ثغرات؛ فألتفت كل الالتفات وانصرف كل الانصراف عن المثالب والعيوب؛ بل أسعى ما وسعني الجهد وأسعفتني الطَّاقة إلى إظهار محاسنه وإبراز مكامن القُوَّة فيه ومديح إنجازاته، والافتخار بأمجاده وبطولاته، والتذكير بما كان عليه أسلافنا من الأجداد من فاقة وشظف وشتات وبؤس وفرقة في الرَّأي والاتجاه والموقف إلى أن يسر الله الأمر للإمام المؤسس الأول محمد بن سعود -رحمه الله-، ثمَّ من خلفه وجاء بعده من الأئمة والملوك خلال ما يزيد على مائتين وسبعين عامًا؛ فتم بناء وطن كبير وضخم من لا شيء، وطن بني مما يشبه العدم لأوَّل مرَّة في تاريخ عرب الجزيرة، حتَّى اكتمل وتلاحم وتشكّل وكون فضاءً واسعًا ممتدًا على خريطة الجزيرة العربيَّة مذ هاجرت عاصمة الدَّوْلة الإسلامية من المدينةالمنورة في عهد الخليفة علي بن أبي طالب -رَضِي اللهُ عَنْه - أي بعد هجرة عاصمة الدَّوْلة الإسلامية الأولى بألف ومائة وستة عشر عامًا! هذا مذهبي في النقد! للدولة تقديرها وإجلالها وحمايتها والذبّ عنها، أما الحكومة التي تنفذ سياسة الدولة؛ فإنّها معرضة للانتقاد وللمحاسبة، فإنّ أحسنت قلنا: أحسنت، وأن قصرت قلنا: وَيْحَك ما هذا؟! المنصب في الحكومة تكليف لا تشريفًا، فمن تسنمه عليه أن يوطن نفسه بأن النَّاس كل النَّاس -وليس الكاتبين والشوريين والمراقبين فحسب - بل كل المواطنين عيونٌ مفتوحة وقلوبٌ واجفة، ينتظرون الإنجاز، ويتطلعون إلى تحقيق ما تطمح له الدَّوْلة من إسراع في تحقيق ما خطط له من مشروعات وبنى تحتية. ليس من حب الوطن أبدًا ولا من الإخلاص له مجاملة مسؤول برتبة وزير أو غيرها من الرتب كلف بأداء مهمة وطنيَّة في وزارته أو جهته الحكوميَّة فأخفق أو تراخى أو قصر في أداء مهامه؛ فتأخَّرت مشروعاته، وحابى من حابي، وفتح عينيه وقلبه للإِثْرِاءِ الشخصي متكسبًا من فيء وظيفته بطرق شتَّى بعضها مخفيٌّ وبعضها الآخر ظاهرٌ مكشوفٌ للعيان! ليس من حبِّ الوطن مجاملة هذا المسؤول وغضّ الطرف عنه؛ لكي لا نتهم بالنَّظر إلى النصف الفارغ من الكأس! من حبِّ الوطن والإخلاص له والفناء فيه والولاء لقيادته والامتلاء بما يجب نحو أجيالنا القادمة أن يقول الكاتب ومن يملك أمانة الكلمة ما يجب عليه قوله لإصلاح خلل أو إِنْجاز ما يجب إنجازه من مرافق لا تستقيم الحياة إلا بها؛ كالجامعات والمدارس والمشافي والمطارات والقطارات وغيرها، وتحسين مستوى عيش المواطنين، ومكافحة الفقر، وبناء قاعدات اقتصاديَّة صناعيَّة، وتأسيس وسائط إعلام وطنيَّة نافعة جادة مفتوحة تبني الخلق الرَّفيع وتُؤكِّد القيم السامية وتجذّر مفهوم الوطنيَّة الحقّة، وتفتح الآفاق نحو وطن مضيء مشرق مبتعد عن اليأس والسلبية. مذهبي في النقد أن أمدح وأسرف في المديح حين يكون الإطراء نافعًا ومفيدًا ومقويًّا للّحمة الوطنيَّة ومشجِّعا على مزيد من العمل والإِنْجاز والبناء، وأن أهجو وأسرف في الهجاء للذين توكل إليهم مصالح المواطنين فيقصرون أو يسيئون مسؤولياتهم؛ يكون النقد واجبًا حين يكون القصور فاحشًا لا يمكن أن يكون الصَّمت عليه إلا خيانة للوطن وقيادته. النقد المخلص الإيجابيّ في مذهبي هو طريق النُّضج والقُوَّة والاكتمال. [email protected] mALowein@