يزخر تاريخ النقد الأدبي السعودي بنماذج راقية مشرفة في قيمتها ومحتواها تمثّلت في أكثر من منجز أبقته لنا رموز أدبية نعتد بها ونحترم كل جهد أدبي رائع قدموه بين أيدي الأجيال، مما أسهم في دعم جانب التذوق الأدبي (الذي هو قدره في الطبيعة الإنسانية تجعل صاحبها مستمتعاً بمواطن الجمال في الأعمال الفنية عامة وفي الأدب خاصة، ويعد التذوق من القضايا النقدية التي تتناول الحسن والقبح في الأثر الفني اعتماداً على أصول الجمال، ولذلك فهو يدخل فيما يسمونه اليوم النقد الجمالي) «د. ماهر عبد الباري». وإذا ما اتفقنا على أن (النقد الأدبي) فن أدبي مستقل يعطي للناقد الأدبي أعمال أدواته الفنية في دراسة النص بطريقة شائعة الحضور على مر العصور، فإن الملاحظ في الآونة الأخيرة تدني مستوى ما يطرح باسم النقد وتحديداً في وسائل التواصل الاجتماعي وهذا من شأنه لو أُغْفِلْ وصُمِتَ عنه الانحدار بالذائقة سواء في الشعر الفصيح أو صنوه الشعبي، فمن الملاحظ أن بعض المتحمسين لشعر بعض الشعراء الشعبيين يقدح في الشعراء الآخرين وهو أمر مؤسف لسببين: الأول أنهم لم يقدموا من نماذج شاعرهم المفضل من النماذج الشعرية ما يشفع له من أدلة أدبية بهذه الأفضلية، والثاني: أن إعجابهم بهذا الشاعر لا يعطيهم الحق بالإساءة لشعر الشعراء الآخرين بأسلوب قد يتجاوز شعر الشعراء إلى أشخاصهم، ولكي نستفيد من التجارب الأدبية لكبار الأدباء والمثقفين ونُفعِّل مقولة (وبضدها تتميز الأشياء) أشير لما قدمه معالي الشيخ الأديب عبد العزيز التويجري - رحمه الله - في كتابه (في أثر المتنبي)، حيث إن إعجابه الكبير وإنصافه الأدبي لأحد كبار شعراء تاريخ الفصحى أخذنا إلى عالم الأدب والفكر برقي ولم يتضمن أي إساءة لشعراء آخرين وفي هذا درس ناصع للأجيال، كذلك فإن الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس - رحمه الله - في كتابه - من جهاد قلم في النقد الأدبي - واجه معارك أدبية شرسة وتحديداً في ذوده عن الشعر الشعبي ولكن كل هذه المواجهات كانت موضوعية أدبية راقية لم تتدن إلى شخصنة لا تليق البتة بينه وبين أي من خصومه، وفي المقابل أنصف كل تجارب قدامى الشعراء - منذ ما يقرب من ستة قرون إلى زمننا هذا - مثل جعيثن اليزيدي، وراشد الخلاوي، وأبو حمزة العامري، الشريف بركات، وعرعر بن دجين، رميزان التميمي، جبر بن سيار، حميدان الشويعر، عبد المحسن الهزاني، بديوي الوقداني، مقحم الصقري، وغيرهم. كذلك أشير لمعالي الدكتور غازي القصيبي الشاعر الكبير والأديب والروائي - رحمه الله - وكيف كانت موضوعيته بحتة في كل مواقفه الأدبية في النقد الأدبي أو غيرها من مواقفه مع الكلمة وكانت أنموذجا مشرفا للأديب والشاعر السعودي، ولعل كتاب الإعلامي الأستاذ تركي الدخيل (قال لي القصيبي) شاهد على أن احترام الآخرين هو جزء لا يتجزأ من احترام الذات سواء على الصعيد الأدبي أو الخاص، أيضاً أشير لسلبية - تشنج - بعض الشعراء الشعبيين في ردود أفعالهم على من يخلطون بين نقدهم لقصائدهم وانتقادهم لأشخاصهم وأدعوهم للتأني -ومخاطبة الناس على قدر عقولهم - واستشهد بما جاء في كتاب (استجوابات غازي القصيبي) حيث كان السؤال: إلى أي مدى تتحمل آراء الأدباء، أو قارئي شعرك؟ فكانت إجابته: (هذا الموضوع تغير بمضي السنين، عندما كنت في حياتي في حوالي العشرين، ونشرت ديواني الأول، كنت حريصاً على أن يقرأ شعري. وكنت أجمع ما يكتب عنه، وأنزعج من النقد. غير أني أجد أنه - بمرور السنين - قد تكونت لدي حصانة شبيهة بالحصانة الدبلوماسية، هي حصانة نقدية، فلا أكاد أجد فرقاً بين ما يكتب في مدح شعري، وبين ما يكتب في نقده، بل على العكس، إذا وجدت القطعة مملوءة بالتقريظ المفرط، لا أستطيع أن أكملها، ولهذا لا أرد على أحد، ولا أذكر أنني - في حياتي كلها - رددت على إنسان انتقد شعري، إلا مرة واحدة، كانت مع الشيخ أبي عبد الرحمن الظاهري، وقد كانت مجرد مداعبة لغوية. - محمد بن عبد العزيز الراشد