أربعة أشقاء واقفون بوجوم أمام منزل عتيق، رحب بهم دارهم بكرم والدهم الراحل بعد طول غيابهم بإمالة سعف النخل ليمدهم بظل وارف ليقيهم من أوار ظهيرة هذا اليوم الذي تتنبأ به وجوههم المقطبة بأنه يوم عسير اقترب حمد من باب الدار ليتفحص رتاج المنزل عن كثب فوجده صدى متآكلا، وينذر عن معركة ستقام ضد هذا الباب الجليل، أدخل المفتاح وأداره ولكن شيئاً عصياً يقف في طريقه، حاول مجدداً مطبقاً عليه بشدة بقبضة يده وباذلاً قصارى جهده، ولكن محاولاته المتوالية ذهبت سدى، أظهر القفل عناداً صريحاً ورغبة ملحة في عدم الرضوخ لرغبته بالدخول حين رفض أن يحل وثاق باب ميراثهم، تلاشت هالة الإحباط التي طوقت حمد عندما دفعه أنس بمنكبيه العريضين وليبرز قوة لا تستهان خر أمامها الباب العجوز المكابر صريعاً في لمحة البصر. نظر الأشقاء إلى يد أنس وكتفيه الشامخين وجسده الضخم بعجب بالغ، فما كانت لأخيهم هذه القوة فيما سلف ولكن بدا لهم بأن أنس أفرغ قهر السنين المستديم في هذا الباب الوفي لأيام طفولتهم الراحلة، شعروا بأن ذاك الباب ذل بعد عز دام لسنين، انتابتهم موجة رحمة عارمة لهذا الخشب المحطم، فهو السد المنيع الذي طالما وقاهم شر اللصوص ورهاب قصص والدتهم عن جوالة محتالين وغيلان تأكل الصغار العابثين في حندس الليل الغابر. ولج الإخوة واحداً تلو الآخرمخلفين باب دارهم مغدورا يبكي شذرات دمعية شظية تتلظى ضيماً لجحدهم الجميل، عاتبهم العجاج حين وطأوا عتبة الباب بانبعاث همجي أشبه برماد جمر مسفوف، نفض الأشقاء باشمئزاز الغبار عن ملابسهم وتأففوا وهم واقفون في عقر الدار بجانب بعضهم بعضا في حلقة دائرية، تطلع الإخوة الثلاثة لأختهم حنين فوجدوها مغطاة بطبقة سميكة من الهباب ولكنهم رأوها كما كانت في آخر عهدهم بها فتية تنضح بالجمال وخصرها نحيل وقدها ممشوق وبشرتها بهية وأهدابها طويلة غزيرة، أغورت هذه الهيفاء الحسد في صدور نساء العاصمة لتمتعها ببطن مسطحة وبشرة ملساء وشعر خلاب ورشاقة تسرق الألباب إلا أن عينيها النجلاوتين يحجبهما ضباب حزن عميق منبعه رحمها الأجوف الذي بعث الشقاء في قلبها، حسدت لخلاصها الأبدي من واجب الأمومة المنهك وسهر الليالي لإرضاع طفل يصرخ بلهات ترقص بلا كلل ومتاعب المنزل الصباحية التي استبدلتها بسرير وثير، شغفت حنين حبا بالعاصمة لرغبتها الملحة في تحقيق حلم الطفولة الوردي، خيالها الجامح عن طرقات العاصمة وفخامة مقاهيها ورقي قاطنيها وعلو مكانة جامعاتها. ولكن الحقيقة كانت نقيض ما رسم في ذهنها، كانت المدينة مشحونة بالبغضاء وموبوءة في أواصر صلات البشر يتأملون بشح خلقي وأوجههم تتبدل مع مصالحهم ومطالبهم أثرت حائل على قذارة المدن ودخلها النتن، أرادت العودة لحيهم للجو العليل واستراق النظر من شق نافذتها لجارات منزلهم اللائي يتزاورن في أوقات الضحى موثقين روابط المحبة بنقاء القلوب، ولكن الغيرة استفحلت في قلوب من زاملها حتى أثقلوا كاهلها بهوس متابعة آخر صيحات خطوط الأزياء وبثوا الهم والغم في قلبها حتى انسكب الدمع من عينها ونال السهد منها وقرضها الحزن قرضا، لو علمن تلك النسوة ما يختلج صدرها من أنين اشبه بسعير أتون ناره متأججة لعلموا بأنها تفضل أن تحمل اللحم وتفقد جمالها البارع ويترهل بطنها وتفقد منحنيات جسدها الفاتن وخصرها المستدير على أن تحظى بلحظة واحدة لحمل حشاشة جوفها ومنحه حنان أمومتها الموؤودة في مهد حقيقة عقمها. تحولوا بأنظارهم إلى سقف المنزل الذي كان يخرخريراً كنهر اشتط غضباً، كل ما بالمنزل حانق على هؤلاء الأشقاء الذين حبسوا أقدامهم عن زيارة هذا البيت لعدم رغبته بتذكر الماضي السالف الذي ضمهم صغارا وجمعهم بجو حب مفعم بالراحة والأمان. خاطبهم عبدالله بتهكم: العفونة تكاد تخنق هذا المنزل أصبح مثيراً للشفقة علينا ببيعه حالاً. قال حمد بنبرة تحن إلى نشأته الأولى في رحاب هذا البيت: إن إمام المسجد حدثني عن عزمه عن إقامة دار لتحفيظ القرآن لنجعل ميراثنا حسنات جارية لوالدنا رحمة الله عليه. قال أنس على استحياء: أرى بأن رأي حارث هو عين الصواب. نظرت حنين لهم بعين يملؤها الدمع وتحدثت بنبرة تخنقها العبرة: لهذا البيت ذكريات حلوة لا أود فقدها بالتخلي عن دارنا لمجرد أن والدتنا أسلمت روحها لبارئها هنا، أعلم بأن كل شيء هنا يعيد ذكرى والدتي، وآخر ساعات احتضارها المؤلمة ولكن لا تدعو الشيطان يدخل من باب تكرهونه اغلقوا الباب وافتحوا كوة على لحظاتكم السعيدة تذكروا أعياد الفطر والاضحى وأيام خرف التمر واللعب واللهو مع أبناء عمومتنا، ولعمري بأني أتوق للعودة للوراء لتمتع بساعة واحدة في حياتي الماضية، أريد أن أحضن والدتي لمرة واحدة وأهمس بأذنها احبك أرغب بتذوق الخبز الذي تعده والدتي في هذا التنور، وأشارت بأصبعها إلى موضع التنور فتحولت أبصارهم إلى ما اشارت إليه فتراءى لهم خيال والدتهم وهي تخبز بالتنور فران الصمت مهابة لذكر فضائل والدتهم الطاهرة. قالت حنين بعين حالمة تستعيد ذكريات أحلى من العسل وأرق من الماء الزلال: الشرب في إناننا الفخاري والبكاء على صدر والدي، وضعت يدها على بطلها وأخفضت رأسها بانكسار وأردفت قائلة: كتب الله على هذه البطن ألا تلد أبدا فمالي غير الحمد على نعم الله والرضاء بقضائه وقدره ولكنني أسأل الله بأن يعوضني بكم خيراً بما فقدت من سرور في حياتي، لا أريد بيع الدار، ابتغي أن نعيش ما تبقى من حياتنا المكتوبة هنا سوياً تحت سقف هذا المنزل. تراءى لأنس بأن هنالك مصباحا أضاء فوق هامته حين نطقت حنين بما نطقت. إن عودتهم لسكن سوياً في هذا المنزل تقتضي الخلاص من بؤسه والدائنين الذين يلاحقونه في كل حين ووجود منزل يضمه ويؤيه بعد أن بات شريداً يتلحف الطرق ويتوسل اصحابه بالمكوث ليلة واحدة لكيلا يبيت على طواء، لا منزل يؤيه ولا يوجد عمل يزاوله سوى احتساب مخاوفه المستقبلية فبعد أن خاض مضمار التجارة وحقق نجاحا باهراً في بيع مستحضرات التجميل كشفت وزارة الصحة عن احتواء هذه المستحضرات على مواد مسرطنة فقامت بمصادرة بضاعته ليخسر جميع ما ربح بلمح البصر وعاد بعد الغنى فقيراً كما كان أول عهده، أما عبدالله بعد أن هجرته زوجته من أجل شيخ ثري مخلفة وراءها طفلاً لا يتجاوز السنوات الثلاث لأب يجهل كيفية التعامل مع الصغار مرغمة إياه على الرضوخ لاقتراح قد جعلته خياراً لا مفر منه بأن تضم ابنها تحت كنف زوجها الذي كان يشتمه عبدالله في سره وعلنه. إن عودتهم للسكنى سوياً بدت فكرة مليحة فإن حنين خير أم بديلة لابنه الذي فقده بسبب عزوفه عن النساء فما ذاقه على يدي زوجته الذئبة جعله يحرم النساء على نفسه. كان حمد يحدث نفسه بأنه قلبه عانى من الحرمان العاطفي ما جعله في شره لجو عائلي، بعثته حرمته من مشاركة الصائمين على موائد الإفطار والتمتع بسماع رفع الأذان من مآذن المساجد، حان وقت الضجيج وسماع قرع نعال القادم والرائح على عتبة باب داره، يريد أن يعود لأيام التزاور وأجواء الود والحب الأخوي المتبادل. ابتسموا جميعا لبعضهم بعضا مرحبين بالفكرة وطأطأوا رؤوسهم بالموافقة في لحظة واحدة ليعلن توافق حركة رؤوسهم بأن قرارهم طرحت به البركة.