اعتاد المجلس الأعلى للثقافة بمصر ان يقيم سنويا مجموعة من الاحتفالات والمؤتمرات الثقافية تكون فرصة لطرح الافكار والرؤى من خلال حلقات النقاش.. وفرصة لالتقاء العديد من رموز الثقافة العربية على ضفاف نهر النيل حيث مقر المجلس.. ويبدو ان الغالب على هذه الاحتفالات عام 2000م هو تكريم الرموز.. ففي الاشهر الاربعة الاخيرة تم تكريم مجموعة من الرموز مثل يوسف وهبي عميد المسرح العربي ولويس عوض أول مصري يترأس قسم اللغة الانجليزية بآداب القاهرة.. وأخيراً اختتم المجلس فاعليات هذا العام بمؤتمر كبير عن صلاح عبدالصبور 1931 1981. ايقاع هادىء السمة الاساسية لاحتفالية عبدالصبور ان الايقاع كان هادئا على غير العادة لأسباب كثيرة منها قلة الجمهور نسبيا نتيجة توقيت المؤتمر في الايام السابقة مباشرةعلى شهر رمضان المبارك وهي ايام ينشغل الجميع فيها بالاستعداد لهذا الشهر وربما برودة الجو في الخريف بعض الشيء حالت دون حضور الجمهور المتوقع لمثل هذه الاحتفالية. انعكس هذا على كلمات المشاركين الاكاديمية والتأبينية وحتى الشهادات الخاصة التي تستعيد علاقة ما بصلاح عبدالصبور الانسان والشاعر. ويبدو ان امين المجلس الاعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور كان واعيا ان توقيت المؤتمر يظلمه نسبيا لذا حرص على المشاركة بنفسه وترأس بعض الجلسات بصفته النقدية بالطبع وليس الادارية كما حرص وهذا يحسب له على استضافة مجموعة من الاسماء اللامعة من مصر ومن البلاد العربية المختلفة امثال محمد برادة وعبده وازن وبول شاؤل وشربل داغر وصلاح فضل ومحسن مصيلحي واسامة ابو طالب وعبدالمعطي حجازي والفيتوري وممدوح عدوان وغيرهم. على مدار ثلاثة ايام صباحاً ومساء كانت فاعليات هذا المؤتمر.. وكان الحوار المسرحي والشعري والصحفي حول صلاح عبدالصبور الذي يعد احد رواد القصيدة الحديثة في الوطن العربي وكان أغلب المساهمين والمشاركين من اصحاب الاهتمام (العام) بتجربة عبدالصبور او بمعنى آخر افتقدت فاعليات المؤتمر اسماء الباحثين الذين خصصوا أطروحاتهم لصلاح عبدالصبور وتجربته. تركيب الصورة السمة الثانية التي ميزت هذا المؤتمر هي أن المحتفى به شخص له وزن ثقافي كبير سواء اختلفنا او اتفقنا بشأنه وهذا يجعله في تماس مع العديد من الانشطة الثقافية المختلفة فهو أولا رائد في مجال الشعر وله مسرحياته الشعرية علاوة على القصائد الغنائية كذلك له جهود معروفة في حقل الترجمة وكتابة المقالات المختلفة وأخيراً هو رجل دولة عمل رئيسا للهيئة العامة للكتاب قبل وفاته مباشرة .من هذا المنطلق انقسم المشاركون الى فئات مختلفة كل حسب تخصصه في محاولة لرسم بورترية لصلاح عبدالصبور يحتاج الى همزة وصل لتجميع الصورة المتكاملة له، فالمسرحيون تحدثوا عن نصوصه على خشبة المسرح والشعراء تحدثوا عن ريادته للقصيدة والنقاد تفننوا في استنطاق مقالاته بحثا عن رؤاه النقدية. الدكتور اسامة ابو طالب رئيس المركز القومي للمسرح عالج في كلمته «خلاص الشاعر ومأزق البطل» من خلال مسرحية الحلاج حيث ناقش فكرة التطهير الارسطية وكيف اجتاز عبدالصبور اختبار الشعر ليواجه اختبار المسرح. بينما تحدث الدكتور محسن مصيلحي عن التجليات البريختية في مسرح صلاح عبدالصبور مثل استخدامه لمفاهيم الايماءة والاغتراب البريختي وغير ذلك، كما يتجلى على سبيل المثال في مسرحيته «مسافر ليل» سواء على مستوى البنية الدرامية أو المقولة السياسية الناتجة عن المسرحية. اذا انتقلنا الى حديث النقاد وأوراقهم فهم جميعاً كانوا على اتفاق بأنه واحد من رواد القصيدة العربية الحديثة مع السياب والبياتي وادونيس وذكر فخري صالح رئيس جمعية النقاد الاردنيين ان صلاح عبدالصبور استثمر عدداً من العناصر لتجديد القصيدة العربية من بينها استخدام وتوظيف الاسطورة، لكن الاهم الذي يميزه حقيقة هو انه طرح منذ خمسينات القرن الماضي القصيدة خفيضة الصوت التي تنبني على أحداث يومية ومفردات بسيطة وتنتسب لما هو مألوف ومؤقت مديراً ظهره للنبرة العالية التي كانت سائدة آنذاك.وانقسم طرح النقاد فيما يتعلق بمصادر التكوين لدى الشاعر وهل هو يتكئ على التراث الانساني عامة كما يرى ذلك جابر عصفور وعبدالقادر القط أم يرتكز بالاساس على التراث العربي والاسلامي كما يرى محمود صبح وعبدالله التطاوي؟!هذه القضية شغلت حيزاً كبيراً من آراء النقاد فمحسن جاسم الموسوي يرى ان عبدالصبور شأنه شأن عدد كبير من الشعراء المحدثين ابتداء بمحاكاة النص الشعري القديم منفتحا عليه متماهيا معه الى حد التطابق، قبيل ان يتمدد من داخل محنة التصوف قريباً من هذا طرح الدكتور عبدالله التطاوي الذي يرى ان العديد من الظواهر التراثية العربية فرضت نفسها على ابداع صلاح عبدالصبور منذ شغله مشهد الفارس القديم وحتى توظيف تحية الجاهلية في لغة الخطاب الشعري. وفي ورقته أكد الدكتور عبدالله الغذامي ان صلاح عبدالصبور كان مفتونا بالمتنبي غير انها فتنة الولد العاصي لابيه الفحل، فسعى الى كسر النسق الفحولي وتهميشه بما يعني ان التراث العربي والاسلامي كان مؤثرا في تجربة عبدالصبور الا انه كان حريصا على التجاوز وعلى البحث عن أفق انساني أرحب، كما يؤكد على ذلك محمد مدني الذي يرى أن لوركا الشاعر الاسباني الكبير كان واحداً من أهم المبدعين الذين اعجب بهم صلاح عبدالصبور فقرأ اعماله بالانجليزية وسعى الى ترجمتها وفي السياق نفسه يمكن طرح ت.س . اليوت.من خلال هذا الجدل حول مصادر التكوين كانت هناك أطروحات توفيقية للقبول بها جميعاً على نحو متوازن فمثلا تحدث صلاح فضل عن المكونات الاساسية للفكر العربي والمتنامية منذ عصر النهضة منها أولا تتسم بعدم القطيعة الحادة مع التراث في جملته بل تنتقي العناصر العقلانية وتركز عليها لرفع شأن الوعي العقلي. وثانيا تسعى الي تسييد التفكير العلمي بشأن قضايا المجتمع والحياة وايضا تعلي من شأن حرية الابداع والفكر . هذا الخطاب الحداثي يتمثله الشعر والفن بصفة عامة على نحو غير مباشر أي ان عبدالصبور في رأي صلاح فضل، حقق ذلك عن طريق التجريب الابداعي في الابنية الموسيقية والتعبيرية دون الخضوع الصارم للنظم المتوارثة مع الحفاظ على التواصل الخلاق مع النماذج العليا من تجليات هذا التراث.من القضايا الاخرى التي أثيرت ما يتعلق بالاوزان الشعرية وكسر النسق الخليلي الى التفعيلة ثم الى قصيدة النثر، هذه القضية التي تثير جدلية شديدة ارتأى جابر عصفور ان يتجاوز المزايدة بشأنها مطالبا النقاد على المنصة وخارجها ان يتعاملوا مع تجربة الشاعر كما هي والا نحاول إسقاط احكام معيارية مسبقة عليها.. فنحن امام تجربة شعرية مهمة بحث فيها الشاعر عن ايقاع خاص به وعلينا أي النقاد ان نبحث عن جمالياتها لا ان نقول هذا اخطأ وعيب أو هذا صحيح! بهذا أغلق باب النقاش في تلك المسألة.في المقابل طرح الدكتور محمد عبدالمطلب سؤالا جوهريا: هل عبدالصبور كان ناقداً؟ حيث يرى ان ثمة مشروعاً نقديا يتسم بالاتساع حتى يكاد يستوعب مسيرة الشعر العربي، ورغم ان صلاح عبدالصبور نفسه ينفي عن نفسه صفة الناقد الا ان مقالاته ومعاركه الثقافية مع العقاد على سبيل المثال تكشف عن روح الناقد الذي يميل او ينتمي الى مدرسة التحليل اللغوي برافديه: العربي ممثلا في عبدالقاهر الجرجاني والغربي ممثلا في إليوت. الشهادات كان المؤتمر فرصة لطرح العديد من الشهادات حول الشاعر وكيف يراه الكتاب من مختلف الاجيال فعلى سبيل المثال ركز زميل عمره الشاعر احمد عبدالمعطي حجازي على ما يثار حول اسباب الوفاة التي يقال: ان كلمات جارحة قيلت له بسبب قبوله العمل موظفا لدى الحكومة في منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب، فأكد حجازي ان هذا لا يعقل وإنما الامر كان أزمة قلبية. ومن الاجيال الشابة تحدث الشاعر محمود خير الله عن تعرفه علىعبدالصبور من خلال بعض القصائد المقررة في المدرسة وكيف تتبع عالمه بعد ذلك ثم يتحسر خير الله لان صلاح عبدالصبور الذي كان صوتا للضعفاء والمهمشين تخلى عنهم فجأة مختفيا في تجربة صوفية تكاد ان تفصله عن عالم هؤلاء تماماً!وفي شهادته قال الناقد نسيم مجلي ان صلاح عبدالصبور رغم ريادته للقصيدة الغنائية الا انه تجاوزها سريعا ليبحث لنفسه عن ريادة أخرى في المسرح الشعري بعد شوقي من خلال خمس مسرحيات هي مأساة الحلاج وليلى والمجنون والأميرة تنتظر ومسافر ليل وأخيراً «بعد أن يموت الملك»وخلال هذه الاعمال كان عبدالصبور قادراً على المزج ما بين التقاليد التراجيدية الاغريقية وما بين أساليب المسرح المعاصر. على الهامش إذا كانت المقالات انتعشت بالنهار فإن الشعر بحث لنفسه عن صوت خاص به وجمهور مختلف في ثلاث ليال متعاقبة، أحياها نخبة من كبار شعراء العربية أحمد عبدالمعطي حجازي وممدوح عدوان ومحمد الفيتوري ومحمد ابراهيم ابوسنة وحسن طلب وحلمي سالم وعديد من الشعراء من أجيال واتجاهات مختلفة وكان فاروق حسن وزير الثقافة حريصا لا على افتتاح فاعليات المؤتمر فحسب بل وحضور الامسيات الشعرية أيضا.. وكانت الملاحظة ان القصائد تنوعت ما بين المراثي التي تستعيد صلاح عبدالصبور وتجربته وما بين الهموم العربية القومية كما تتجلى الآن كما ان جمهور هذه الامسيات كان أكثر عدداً واحتشادا من جمهور الندوات الصباحية.