قال لي صديق مغترب في أمريكا خاض معارك السياسة والانتخابات: ما أكذب الجمهوريين وما أشد عنصريتهم، وما أقرب الديمقراطيين للإسلام وما أجملهم في إنسانيتهم. فسألته: اصدق مع نفسك وكن أمينا، من أجل أن نفهم وضعنا فنُشخص أساس مشاكلنا فنبحث بعد ذلك عن حلول لها. أرأيت يا صديقي لو كنت أنت كما أنت الآن بأساس بنيتك المنهجية في التفكير، ولكنك أمريكي أشقر الشعر أخضر العينين من أصول أوروبية، أتُراك تكون جمهورياً أو ديمقراطياً؟ صمت الصديق العربي المُغترب وهلة، وتأمل فيما كان يطرحه في سياق الذم للجمهوريين، فماكذب نفسه ولا ناقض طرحه فقال: لكنت إذن جمهورياً متطرفاً. مصالح أمريكا العظمى يجتمع عليها الحزبان، الديمقراطي والجمهوري. فتسعير الحروب، والتلاعب بالسياسات المالية والنقدية من أجل إنعاش الاقتصاد سمة يتميز بها كلا الحزبين، فروزفلت ديمقراطي وقد فُرضت عليه الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها نصف مليون أمريكي وجرح نصف مليون آخر، وفي عهده حجز اليابانيين الأمريكان في المعتقلات. وترومان وكنيدي وجونسون جميعهم ديمقراطيون وقد سعروا حروبا (الكورية والفيتنامية) قُتل فيها أكثر من مئة ألف قتيل أمريكي وأضعاف ذلك من الجرحى. وريجان وبوش الأب والابن جمهوريون وهم قد سعروا حروبا كثيرة، وإن كان لم يقتل فيها إلا عدد بسيط من الأمريكان لا يتجاوز خمسة آلاف قتيل أمريكي. وفي عهد بوش الابن اعتقل المسلمين في خانة الاتهام والشك. وأما اقتصاديا فنيكسون الجمهوري هو من فصل الذهب عن الدولار ضاربا بالعالم والمعاهدات الدولية عرض الحائط، وكنيدي الديمقراطي هو أول من فتح باب سياسة العجز في الميزانية من غير حرب، ثم اتبعه ريجان فبوش الابن الجمهوريان. وسياسة الإفراط في تيسير الرهن العقاري ابتدأها كلينتون الديمقراطي وباركها بوش الابن الجمهوري. إذن فمصالح أمريكا الكبرى لا اختلاف بين الحزبين عليها، وإنما الاختلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين يقع في منهجية التفكير. فالجمهوريون نوازعهم دينية فتغلب عليهم العنصرية في نظرتهم إلى غيرهم، وأما في سياساتهم فهم يطبقون قاعدة (اعتقد ثم استدل) لذا فهم يضطرون للكذب لنقض الواقع الذي أصبح يخالف ما تركهم آباؤهم عليه. فالجمهوريون قد آمنوا بالرأسمالية والسوق الحرة في صورتها البكر، فهم يُسيرون السياسات ويطوعون القرارات بالكذب والالتوائية بما يضمن أقرب الممكن للصورة الاعتقادية التي قامت عليها أمريكا وقاتل من أجلها أجدادهم. وأما الديمقراطيون فهم ليبراليون فيغلب عليهم تفهم غيرهم من الشعوب والأعراق والأديان، وأما في سياساتهم فهم يتبعون سياسة استدل ثم اعتقد. ولذا فالواقع يخدمهم فيستدلون به ولا يحتاجون إلى الكذب. واليوم أطرح هذا السؤال على كل قارئ: ماذا لوكنت أمريكيا أشقر من أصول أوروبية ولكن بمنهجيتك الفكرية التي أنت عليها اليوم، فهل ستكون جمهوريا أم ديمقراطيا؟ وقبل أن تستعجل الإجابة انظر إلى نفسك، هل تستحقر غيرك من الشعوب أو الأديان والملل المخالفة؟ هل تروج الأساطير والأكاذيب عن رواج الصيرفة الإسلامية وعن عدل المجتمع ومثاليته بسبب الشريعة والأعراف؟ لو صدق كل امرئ منا مع نفسه لعلمنا أن المسكوت عنه بأننا غالبية جمهورية، بسحنة عربية، فلم يا ترى نجتمع على سب بوش الابن والحزب الجمهوري في أمريكا!.