تقتضي الحكمة الإلهية وجود قوانين الندرة لبعض المعادن في الأرض وكذلك لبعض المخلوقات كالأشجار المعمرة العطرة والثمار المتنوعة وحتى الفراشات ذات الألوان المتميزة وأيضاً الكائنات غير الإنسانية، ويسري هذا القانون أيضاً والذي نعرف جانباً صغيراً من أسراره، وتخفى علينا أجزاؤه الأخرى، فعظماء المكتشفين والمخترعين والمعالجين الطبيين والفلاسفة والمتبحرين في العلوم المختلفة والرياضيين الأفذاذ هم قلائل، مثلهم مثل القادة في مجالات الاقتصاد والحرب والسياسة. بالأمس القريب فقدت بلادنا واحداً من الذين يصنفون بأنهم من الندرة والاستثنائيين (سلطان بن عبدالعزيز) هذا الأمة في رجل، والسلطان في اسمه وسلوكه وعمله، وفي المقابل وجرياً لعمل السنن التي وضعها الله سبحانه وتعالى للكون ونحن بالطبع جزء منها، لا يوجد فراغٌ في هذا الكون إلا ويملأ، إما بشموس ومجرات وثقوب سوداء في أعالي السماء، وإما بإحلال بدائل طبيعية لما يفنى على هذه الأرض.. ومن ذلك رجال الندرة، فما أن ورى في الثرى عبقري زمانه (سلطان) حتى أدرك ولي أمر هذه البلاد -أيده الله- بأن قانون الندرة والتعويض لا بد أن يطبق على البشر في هذا الحيز المكاني من العالم والمسمى المملكة العربية السعودية.. فكان نايف بن عبدالعزيز. عملتُ بكل فخر ولمدة تزيد على ستة عشر عاماً تحت إدارة هذا الرجل الاستثنائي كمشرف على استعلامات مكتبه العامر في وزارة الداخلية، وخلال كل تلك المدة وبحكم الأعمال المناطة بنا كنا نرى ونعتبر القوي الأمين جامعة مفتوحة لنا، ننهل منها العلوم التي قلما تزود بها طلبة الجامعات التقليدية التي نعرفها، فعلى مدى ثلاثة أيام من كل أسبوع، يقف رجل الأمن الذي قل نظيره في وسط مجلس كبير يتوافد عليه مشارب بشرية كثيرة يحملون مطالب متعددة لا رابط بينها إلا أنها موجهة لصاحب القلب الكبير والرأي السديد. كانت وظائفنا تنحصر في شؤون المجالس الموسعة الكبيرة التي لا ينقطع عنها الجمهور والمراجعون لثلاثة أيام أسبوعياً نجمها وزير داخلية محور الدول العربية والإسلامية، وأهم دولة يعتمد عليها العالم -بعد الله- في شؤون الطاقة، وتترك أيام أسبوع العمل الباقية ليديرها نجم لامع آخر لا يقل عن أخيه موهبة وخلقاً وعبقرية سمو الأمير أحمد بن عبدالعزيز وفقه الله. وخلال تلك السنوات التي عملتُ فيها تحت إشراف من سمع العالم قبل ساعات بتقلده ولاية عهد بلاد حباها الله بنعم كثيرة أولها نعمة الشرف الإسلامي بكل تاريخه ومعانيه ورموزه وأماكنه، لم تر عيني ولم تسمع أذني يوماً تبرماً للشامخ (نايف) من أعداد المراجعين وما يحملونه من شكاوى وهموم ومطالب تزداد شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة. لم يكن يشغله عن حضور المجالس المفتوح المخصصة لقضاء حاجات الأمة ما كان يداهم بلادنا من مخاطر داخلية أو خارجية، من كان يصدق والعالم كله مشغول بأزمة الخليج وتداعياتها على دول المنطقة وأولها المملكة العربية السعودية، بأن رجل أمن البلاد التي تحملت -بشكل لا مثيل له- وطأة أزمة الخليج في أعوام 1990م و1991م، لا يتخلف يوماً -إلا فيما ندر ولأسباب قاهرة- عن حضور المجلس الذي يخصص لمراجعين، لم تكن الأزمات وما تبعها من تداعيات وتأثيرات تعني لهم شيئاً قدر ما كانوا يعتقدون بأن ما يحملونه من أوراق تأتي قبل كل هم وانشغال أكبر! السماحة واللطف والمعرفة والحلم والتروي والحكمة المخلوطة بكرم الخلق واليد، هي صفات القوي الأمين عند استلامه لعرائض المراجعين وطلباتهم في أزمنة السلم والحرب، وأزمنة الهدوء السياسي ونقيضها من عواصف ومحن. قبل أيام كنت في رحلة لأستراليا ونيوزيلندا، وكان من الصدف أنني اصطحبت معي في رحلتي الطويلة البعيدة كتابين يتحدثان عن شأننا السعودي الداخلي، وبالرغم من نبرة العداء والتمرد ونقصان المصداقية بشكل واضح في صفحات عديدة من الكتابين، إلا أنها أقرت بشكل أو بآخر بأن كياسة ونُبل رجل الأمن الأول في بلادنا أمران لا يكاد الشك يلحق بهما، حتى في أثناء الخصومات المفتعلة والحماقات المتعددة التي هي من صنع الأطراف الأخرى التي تم تأليف الكتابين للحديث عنها طويلاً، وعن وقائعها مع من يتقلدون أمر هذه البلاد التي لطالما كانت في عين العاصفة منذ توحدت وحتى الآن وبالتأكيد في المستقبل. تفاجأ الشريك في رحلتي من صبر وحلم نايف بن عبدالعزيز، لكنني كنت أعرف أن هذا غيظ من فيض أخلاق وعلم الإدارة الفطري عند من نهلت من عبقريته طوال الستة عشر عاماً. إن البلاد التي أنجبت عبدالعزيز بن عبدالرحمن الذي قلما يجود الزمان بمثله، أنجبت كذلك ملوكاً حافظوا على سلامة البلاد التي أسسها الأجداد الأسلاف بدمائهم وعرقهم وجهدهم، حافظوا عليها وقد أطاحت الفتن والاقتتال والتطاحن بكل من حولهم من الدول والكيانات السياسية بكل أشكال مؤسساتها، ولم يكن هذا من قبيل الصدف والظروف الحسنة، بل بالتأكيد بتوفيق من الله أولاً وبكل تلك الهمم التي لا تعرف الكل والملل في تصريف شأن داخلي بسيط مثلما تفعل في معالجة شأن خارجي أعظم وأكبر خطراً. منذ عقود ومن ضمن الذين اعتمد عليهم ملوك البلاد المحروسة بعناية أمير قل نظيره اسمه (نايف بن عبدالعزيز)، ولا أكاد أشك بأن الشاعر القديم كان يعنيه لو أنه عايشه عندما قال: يا خير منتخب ينميه خيرُ أبٍ مخيلتي فيك لم تكذب ولم تُخب إن كان وجهك لم تخطط عوارضه فأنت كهل الحجى والفضل والأدب الحجى والفضل والأدب لم تكن سمات القوي الأمين فحسب، بل علومه في قمع الأشرار وخططهم المختلفة الأشكال عن بلاده طوال ما يقارب الأربعين عاماً. التفت عليَّ شريك الرحلة الطيب وقال: أنت معجب بهذا الرجل حتى ولو تباعدت المسافات والأزمنة؟! فقلت مردداً قول شاعر قديم وأنا لا زلت أتذكر جامعة نايف الحية المعاشة التي نهلت منها علوم الخلق الكريم والصبر الجميل: في كل يوم استفيد من العلاء واستزيد ويزيد فيّ إذا رأي تك في الندى خلق جديد حمى الله بلاد الحرمين الشريفين وأعانها على مصابها في فقدها للراحل الكريم، وعوضها خيراً بمليكها الإنسان وعضده العبقري الذي جاء تعيينه تطبيقاً لقانون إلهي أزلي.. قانون الندرة وقانون التعويض.