كان متوقعاً رفض البنوك السعودية، وممثليها، فكرة إنشاء صندوق لمساعدة المتعثرين عن السداد، وحمايتهم من سماسرة الديون المتعثرة؛ «البنوك ليست جمعيات خيرية» باتت شعاراً للمنافحين عن دور البنوك القاصر في المجتمع!. قطعاً البنوك ليست جمعية خيرية، إلا أنها تخضع لمعايير إنسانية، وقيم أخلاقية، وتعمل ضمن نطاق إسلامي يُحتم عليها تفعيل جانب المسؤولية الاجتماعية الذي يوازن بين مصلحة البنوك ومصلحة المجتمع. ردود أفعال المرتبطين بالقطاع المصرفي، توحي بأننا في دولة رأسمالية، لا تؤمن بمبدأ «التكافل الاجتماعي»؛ ولا تضع اعتبارات شرعية للمتعثرين وهم من المعسرين، الذين قال الله فيهم: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ فالمقترض، بنظرهم، مسؤول عن قراراته التمويلية والاستثمارية، ولا علاقة للبنوك في تبعات قراراته، وإن كانوا سبباً رئيساً في حمله على تبنيها، والإقدام عليها من خلال «المشورة المؤتمنة»، وتحفيز جانب (الطمع) لديه بالإغراء الذي لا يُرد، أو الحاجة التي تُقحِمُ صاحبها في المهالك!. كثير من المتعثرين كانوا ضحايا تسويق بطاقات الائتمان بطريقة إغراقية، وغير مسؤولة، من منشآت يفترض فيها المسؤولية تجاه المجتمع؛ وبعض ضحايا الأسهم تحملوا ديوناً متراكمة لأسباب استشارية، وإغرائية، من قبل مستشاري البنوك، ومديري الصناديق، ومسوقي مُنتج تمويل (المضاربة بالأسهم)، التي لم تكن معروفة لغالبية المتداولين في السوق. معظم البنوك السعودية امتنعت عن تقديم القروض الإنتاجية، وسهلت، في الوقت نفسه، إصدار قروض المضاربة، والقروض الاستهلاكية!. دفعت البنوك بعملائها إلى حافة الهاوية، فلما سقطوا، حملتهم مسؤولية السقوط، ونأت بنفسها عن مسؤولياتها الأخلاقية تجاه المجتمع؛ تتحمل البنوك مسؤولية إغراق المجتمع بالديون الاستهلاكية، وديون المضاربة، ولا يمكن القبول بتحميل المقترضين كامل المسؤولية، وإن كانوا من الراشدين؛ فالرشد المالي مرحلة لم تصل إليها كثير من البنوك السعودية وهي تمتلك الخبرة والتشريعات الضامنة لحقوقها، وتعج بالخبراء والمستشارين؛ والدليل خسائرها الموجعة في محافظ الاستثمار، والائتمان، والتي جعلتها تستحق العون والمساعدة من الجهات الإشرافية؛ لذا فمن الطبيعي ألا يصل صغار المُقترضين إلى مرحلة الرشد المالي الذي عجزت عن تحقيقه المصارف نفسها!. ما تُجيزه المصارف لنفسها في الأزمات، يجب أن تُقِره للمعسرين، وهو أمر لن يكلفها كثيرا، بل سيزيد من ثقة المجتمع بها، ويؤصل نهجها الشرعي، في (أسلمة) معاملاتها المصرفية؛ المعاملات الشرعية ليست مقتصرة على العقود فحسب، بل تتجاوزها إلى تطبيق المعاني الإسلامية السامية في التعامل مع المقترضين، وبخاصة المتعثرون الذين لا يحتاجون إلا إلى إعادة هيكلة ديونهم بما يتوافق مع وضعهم الطارئ، وقدرتهم المالية. في ألمانيا الرأس مالية، تم إنشاء بنك لخدمة الفقراء والمساكين، ومحدودي الدخل؛ تقوم فلسفة البنك على توفير القروض الميسرة للمحتاجين، ومنهم المتعثرون؛ فلسفة البنك شجعت كثيراً من المودعين على إيداع أموالهم في «بنك الفقراء» رغبة منهم في المساهمة بخدمة المجتمع، ومد يد العون للمحتاجين. في المملكة؛ مركز الإسلام، وقبلة المسلمين؛ ترفض البنوك المساهمة في تصحيح أوضاع المتعثرين بإعادة جدولة قروضهم، أو تمويلهم مؤقتاً من صندوق مساعدة المتعثرين، لأنها «ليست جمعيات خيرية»!. لا أحد يقول بخيرية البنوك، إلا أن فصلها التام عن ثقافة المجتمع، وقيمه الإنسانية والإسلامية، ومسؤولياتها الاجتماعية لا يمكن القبول به البتة؛ فلسفة المسؤولية تجاه المجتمع، تحتاج إلى عقول منفتحة، وقلوب رحيمة، وتشريعات تحقق التوازن بين مصلحة البنوك، من جهة، ومصلحة المجتمع ومكوناته من جهة أخرى. تلك الفلسفة غابت عن مجتمعنا الإسلامي التكافلي، وظهرت في المجتمعات الغربية الرأسمالية!. عوداً على بدء، فأوضاع المتعثرين في حاجة ماسة إلى تشريعات رسمية، تحميهم من جور وسطاء القروض، وذُل الحاجة، وتُمكِنَهم من الحصول على إعادة التمويل، وتصحيح أوضاعهم المالية، و(تطهير) سجلاتهم الائتمانية، وبما يضمن حقوق الدائنين ولا يضُر بمصلحة المقترضين. إضافة إلى ذلك فإنشاء «صندوق مساعدة المتعثرين» لن يحمل البنوك إلا النذر اليسير من أرباحها السنوية وبما لا يزيد عن 1 في المائة من الأرباح الصافية، إلا أنه سيضمن، بإذن الله، حل مشكلات المتعثرين، وسيحقق منافع إنسانية، اجتماعية، اقتصادية وأمنية كثيرة، إضافة إلى تحسين صورة المصارف القاتمة لدى المواطنين.