تنتهج البنوك سياسات متحفظة في تعاملها مع المقترضين من أجل توفير الحماية التامة لأموال المودعين؛ إلا أن تحفظها الائتماني لا يحميها دائما من مواجهة خطر تعثر المقترضين، أفرادا وشركات، ومن أجل ذلك تحرص على الاحتفاظ بجزء من أرباحها السنوية تحت بند مخصصات القروض المتعثرة، وفي الغالب تقوم البنوك بتغطية كامل الديون المتعثرة من الأرباح، وتقوم بين فينة وأخرى بتنظيف سجلاتها الائتمانية وشطب الديون التي يغلب الظن على استحالة تحصيلها، إلا أنها تحتفظ بحقها في مطالبة العملاء بالسداد في أي وقت. وهذا حق مشروع ولا شك؛ إلا أن النواحي الإنسانية، والدينية تفرُض على البنوك التعامل بإحسان مع بعض المتعثرين المُعسرين، ممن لا يمتلكون القدرة على السداد، ويتعرضون في الوقت نفسه إلى أضرار نفسية، وقانونية بسبب ملاحقة البنوك لهم، خاصة بعد أن اعتمدت المصارف على المُحصلين المُستقلين الذين لا يلقون بالا لظروف المتعثرين بقدر ما يجتهدون في تحصيل الدين وإن أدى ذلك إلى سجن المُتعثر المُعسر، وتشتيت أسرته. الأكيد أن هناك فارقا كبيرا بين المليء القادر على الوفاء، وبين المعسر؛ فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «مطل الغني ظُلم»؛ ولكن ماذا عن المدين المُعسر؟!. قال تعالى في محكم كتابه الكريم «وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» ومن هنا أجزم بأن البنوك تخالف في كثير من تعاملاتها القانونية والمالية نص الآية الكريمة، بل إن بعض البنوك أكثر حرصا وتشددا في تحصيل ديونهم المتعثرة من صغار المَدِينين المُعسرين، وأكثر تسامحا مع كبار المَدِينين المليئين، ممن وصف الرسول الكريم مطلهم بالظلم. قد أفهم، ولا أقبل، بُعد البنوك التقليدية عن العمل بروح التعاليم الربانية في علاقتهم بالمتعثرين، ولكن ماذا عن البنوك الإسلامية، التي اتخذت الفتوى الشرعية وسيلة لتسويق قروضها، وبطاقاتها الائتمانية، واستغل بعضها فتاوى الهيئات الشرعية المُتشددة لزيادة هوامش أرباحها مقارنة بالبنوك الأخرى، وكأن للتشدد في الفتوى قيمة مُضافة يجب أن يتحملها المُقترضون الحريصون على براءة ذممهم من شُبهة الربا!. التعامل الإنساني، واتباع توجيهات الشارع الحنيف، ونهج المُصطفى صلى الله عليه وسلم، في التعامل مع المُعسرين أمر غاية في الأهمية، إلا أنَه يبقى بعيدا عن ثقافة المصارف السعودية؛ ولأمانة فبعض إدارات المصارف تسعى جاهدة للتخفيف عن المُعسرين، والمتعثرين، وشطب بعض ديونهم مقابل سداد البعض الآخر، إلا أن غالبية البنوك لم تعد تلقي بالا للمُعسرين، ولا تحرص على إبراء ذممهم، أو مساعدتهم، وربما تسببوا بتوقيفهم وتشتيت أسرهم. جعل الله للغارمين حقا في الزكاة، قال تعالى «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، وصغار المُتعثرين في البنوك ممن يستحقون الزكاة ولا شك، وهم لشطب ديونهم، وإبراء ذممهم أكثر استحقاقا، وأشد حاجة وطلبا. أحسب أن زكوات البنوك السعودية ربما كانت أقل من المُستحقة شرعا، لأسباب مرتبطة بالوعاء الزكوي الذي يعتقد بعض العلماء عدم اشتماله على جميع أموال البنوك الواجب تزكيتها، ولعلها تُكفر عن بعض تقصيرها بشطب ديون المُعسرين وإبراء ذممهم، خاصة وأنها كانت سببا مباشرا في إيقاعهم في مُستنقع القروض وبطاقات الإئتمان. المسؤولية الإجتماعية، والتعاليم الربانية تَحمل البنوك على الإحسان للمُعسرين من المُتعثرين، والواجب الوطني يُحَمِّل البنوك مسؤولية إنسانية، أخلاقية، وأمنية، تجاه شريحة غالية من المواطنين الذين تعرضوا لضائقة مالية لأسباب مختلفة فأصبحوا أكثر حاجة لشطب ديونهم، وإبراء ذممهم، من حاجة البنوك للإبقاء على القروض المشطوبة أصلا، والمُغطاة بمخصصات القروض؛ التي ستُرحل في حال تحصيلها القسري مُباشرة إلى الأرباح غير التشغيلية، فيُعاد توزيعها على المساهمين. لم تقتنع البنوك باقتراحي السابق بإنشاء «صندوق لمعالجة أوضاع المتعثرين»، ولعلها اليوم تقتنع بشطب بعض ديون المعسرين تقربا إلى الله، وتكفيرا عن ما اقترفوه تجاه الوطن، والمواطنين.