ليس شرطاً لكل دولة إيجاد «التجنيد الإجباري»، لأن البديل الموازي هو «التجنيد المدني»، ففي البيئات التي يغلب عليها طابع عزوف الشباب عن الأعمال التي تتطلب مجهوداً عضلياً، أو ابتعادهم عن الحرف المهارية، والأشغال اليدوية، أو المهن الحرة، أو الفلاحة، أو الصيد البحرى، أو تربية المواشي والأغنام، وكل الأنشطة الأخرى المماثلة، هذه البيئات تنتشر فيها البطالة المقنعة، ونعني بكلمة «المُقنعة» أي التي لا تظهر للعيان، ولكنهم فعلياً عاطلون ويعتمدون على أهاليهم في المصروف، ويصبحون عالةً عليهم، ويتفرغون لإضاعة أوقاتهم في ما لا نفع فيه، الذي يصل مع الوقت لدرجات الضرر البليغ... وهذا موضوع يطول شرحه. لنركز هنا على وضع الحلول العملية لإشغال الشباب عملياً بالمفيد، الذي يعود عليهم بالنفع وعلى أوطانهم، ويستفيدون من الثروات الطائلة التي تذهب إلى الخارج عبر تحويلات العمالة الوافدة، فكما نرى ونشاهد رأي العين احتلال العمالة الوافدة لكل الأنشطة المهنية والحرفية، واليدوية والأعمال التي تتطلب المجهود البدني، فنراهم في أشغال البنية التحتية كافةً، من تمديدات كيابل الكهرباء، وأنابيب المياه، ومواسير الصرف الصحي، ورصف الشوارع والطرقات، وخطوط الأسفلت الطويلة عبر البلاد، وخطوط الضغط العالي على امتداد الوطن، والإنشاءات كافة، والتعمير، وكل الأعمال المساندة من تسليك كهربائي، وسباكة، وديكور ونجارة وحدادة وتشجير وأعمدة الإنارة، وإشارات المرور والأرصفة والأعمال الحرة، من صيانة السيارات، والتكييف والأجهزة كافة، إلى آخر القائمة الطويلة التي يصعب حصرها في هذه العجالة، التي لو شغلها الشباب السعودي لما استطاعوا تغطيتها، ولكسبوا المكاسب العالية والعائد المجزي، وأصبحوا أثرياء ورجال أعمال. هذه ليست أحلام يقظة، بل هي حقيقة واقعة ماثلة على أرض الواقع، فقط نحتاج إلى مبادرة قوية تخلص الشباب من النظرة الدونية التي تشربوها بمرور الوقت، على مدى عقود، منذ تفجر الثروة البترولية، إذ تصور الكل أن بالإمكان وإلى الأبد توفير وظائف حكومية للجميع، أو تجنيد طوعي لمن يرغب في جميع القطاعات الأمنية والعسكرية والحرس، وخفر السواحل، والحدود وبقية القطاعات، وهذا تصور غير واقعي، ما أدى ويؤدي إلى تفشي البطالة المقنعة وغير المقنعة. وهذه المبادرة ليست خيالية، بل هي بأهمية «التجنيد الإجباري» لبعض الدول للدفاع عن الوطن، ولإيجاد العدد الكافي المساند للقطاعات العسكرية، وتُسمى أحياناً قوات الاحتياط، وتشغيل الشباب في الأعمال المدنية الآنفة الذكر، وبمبادرة وطنية كبيرة عبر برنامج «التجنيد المدني»، بحيث تتم معاملة المنخرط في العمل المدني الميداني معاملة الجند، من حيث الرتبة والترقي بالدرجات، ولكن من دون راتب، ولا بذلة عسكرية الطابع، بل بذلة ذات ياقات زرقاء، وخوذة عمل بدل الكاب أو البرية، ويُعطى أجر عمله مثل أي عامل في المجال نفسه في كل أنحاء العالم، ولكن هنا بشكل إنتمائي منظم، تحت مظلة برنامج وطني كبير مماثل للحوار الوطني، أو الإصلاح العام، أو برنامج البعثات الناجح، وهذه المبادرة الوطنية الكبرى لو تمت بإذن الله فستختفي البطالة ويختفي الفقر بكل أشكاله، الذي قال فيه الخليفة الفاروق: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، ولن تضطر الإناث للبحث عن عمل، لأن هناك من يستطيع كسب رزقه ويصرف على من يعولهم. إن انتشار العمالة بهذه الكثافة، هو كالسيل الجارف، لأن الجميع يريد العمل بالسعودية، إذ فرص العمل الوفيرة نظراً لانصراف شباب الوطن عن تلك الأعمال، وللأسباب التي شرحناها ويعرفها الجميع، حتى الشباب أنفسهم يعرفونها، لدرجة قيامهم بعمل كرتونيات بالنت للتعليق على أوضاعهم بشكل ساخر، ولدرجة تصوير أنفسهم للبحث عن عمل لدى العمال الوافدين المُستقدمين في البقالات وغيرها من الأنشطة الكثيرة، لدرجة استئجارهم السكن من العمال الوافدين، لدرجة طرد العمال لهم من السكن لعدم قدرتهم على سداد الإيجار... إلخ. لابد من الالتفاتة الجادة، والمسؤولية تقع على الجميع، سواء رجال الأعمال وأصحاب المصانع والمجمعات التجارية والعمارات السكنية والكبائن على البحر والفنادق والورش وكل الأنشطة المعروفة، فقط نحتاج إلى لم الشعث بواسطة تحرك على مستوى عالٍ لتحريك الأمور بشكل قوي منظم، لا مجال فيه لتهرب أحد من المسؤولية الكبرى هذه. هذه القضية الكبرى ليست مُسندة لوزارة بعينها، كالعمل والعمال، أو غيرها من الوزارات، بل الجميع يشارك في حلها، بدءاً من التعليم العام لتخليص الناشئة مما يسمى «ثقافة العيب»، ومروراً بكل الوزارات للإسهام والمساندة حتى يحس الشباب ويدرك أن الجميع معه وأنه محل الثقة والتقدير منهم، وما أجمل الإنجاز إذا تم بسواعد شباب الوطن، أما العمالة الوافدة، فلابد أن تنحسر رويداً رويداً، مثلما ينحسر أي مد، ولن نبقى رهناً مدى الحياة للعمالة المُستقدمة، ففي ميادين الأعمال الحرة يتم اكتشاف المهارات المدفونة، والنبوغ والكفاءات والمواهب، إذ طلع منها المخترعون مثل توماس أديسون وغيره من النوابغ، أما الهروب إلى المجهول والتلفح بأسمال النسيج من الأشمغة والغتر والثياب المُسبلة والإنكباب أمام النت والفضائيات، فلن يزيدهم إلا ضياعاً فى ضياع، فليشمروا السواعد ويضعوا جانباً هذا العقال المعيق للحركة ويكتفوا باعتمارها خارج العمل، أثناء التجوال بالأسواق،أو التجوال بالسيارة، أو مناسبات الأفراح، وغيرها من المناسبات الكثيرة، إذ يمكن لبس أنواع الثياب والدقلة المطرزة وغيرها! أتمنى من الجميع تقبل فكرة «التجنيد المدني»، فالوطن في حاجة إلى سواعد أبنائه، ففيها البركة، وسيكون الإنجاز مطابقاً للمقاييس العالمية، ولن نجد تقصيراً أو قُصوراً، فالمواطن أحرص على أعمال وطنه أكثر بآلاف المرات من المُستقدم، الذى لا يهمه إلا كسب المال بأى طريقة، ونحن لا نزال نُسلم إليهم ذقوننا بكل سذاجة، ونعتبرها طيبة زائدة، بل هي حماقة، بينما نحن في الأصل يجب أن نكون أبعد ما نكون عن ذلك. [email protected]