مناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بتجميد الاستيطان لأشهر عدة وإطلاق الاستيطان في القدس هي قمة التلاعب بمسؤولية السلام ورسائل لا يجوز للعالم العربي أو الطرف الفلسطيني أن يبادر إلى تسلمها. فلا تزال القضية معلقة، ولا أظن أن في جعبة الحاوي الإسرائيلي المزيد كي يسحر بها أعين العامة. ولهذا أصبح واجباً أن ندرس حصاد هذه المحطة الحاسمة، محطة أوسلو، التي نقلت القضية الفلسطينية نقلاً عبثياً إلى طريق التصفية، ومكنت إسرائيل من دور مسرحي جديد أكثر خطورة. ولست في حاجة إلى شرح الظروف التي أبرم فيها إعلان المبادئ المعروف باتفاق أوسلو، حيث كتب في شأنه ما يكفي، كما أنني لست في حاجة إلى تقويم الاتفاق لكي أكون طرفاً في الخصوم والأنصار لهذا الاتفاق، ولكن المحقق هو أن النظرة الهادئة بعد كل التطورات في المنطقة والعالم قد تضيف آفاقاً أخرى لم تكن ظاهرة، كما أن التجربة العملية تعطي أبعاداً جديدة في تقويم هذا الحدث الحاسم الذي أظنه أول وآخر اتفاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في المستقبل المنظور. أولاً: اتفاق أوسلو في سياق المشروع الفلسطيني من قبيل الإنصاف، تتعين الاشارة الى أن صاحب القرار عند اتخاذه يختلف تماماً اثناء عملية تحليل القرار بعد تقادم الزمن به، ولذلك يجب تقويم القرار في حدود الظروف والمعطيات التي اتخذ فيها ثم بعد ذلك إلى أي مدى كان صاحب القرار ذا بصيرة بالمستقبل. هناك محظور آخر يجب التنبيه إليه، وهو أنه في الصراع العربي الإسرائيلي بالذات، ترك تجفيف منابع الدعم العربي للرئيس عرفات في ما يشبه التخلي عنه درءاً لمخاطر غضب واشنطن ترك خيارات الرجل محدودة. هناك عامل ثالث يشترك فيه الناس جميعاً بدرجات متفاوتة، وهو أن الخوف من انصراف الأضواء عن الزعماء يدفعهم إلى محاولة التمسك بالأضواء هذه ولو على حساب المصلحة الوطنية. أما العامل الرابع، فهو خاص بالشعب الفلسطيني وطبيعته وضغوط الاحتلال ومسؤوليات المشروع الوطني الفلسطيني. غير أن هذه الاعتبارات كافة لا تستطيع أن تحجب الشكل الذي سار فيه اتفاق أوسلو. فإذا جردناه من ظروف إبرامه، فإن الاتفاق بنسخته العربية - المختلفة عن نسخته الأصلية الإنكليزية - كان يمكن أن يحقق ما تمناه واضعوه الفلسطينيون خصوصاً أنه انعكاس لميزان القوة المختل بين طرفين، اقتربت إسرائيل فيه من الانفراد بالطرف الفلسطيني الذي قدر أن اللحاق بما يمكن إدراكه خير من الخروج بخفي حنين. فالاتفاق سمح للقيادة الفلسطينية بأن تهبط في فلسطين وأن تتعامل في شكل مباشر للمرة الأولى مع العدو ومع الواقع وربما جال في ذهن عرفات أمران: الأول نظرية بورقيبة (رئيس تونس السابق) القائلة: «خذ ثم طالب»، تطبيقاً للقاعدة القائلة «ما لا يدرك كله لا يترك جله». الأمر الثاني، هو تجربة السادات الذي أشاع الاعتقاد بأن العمل العربي المشترك ضد إسرائيل انفرط، وعلى كل طرف أن يدبر أمره. ولكن الحق أن خروج مصر ترك الساحة لإسرائيل، فلم يعد لعرفات الكثير من الأوراق. وكان يمكن لمشروع أوسلو لو عقد مع طرف غير إسرائيل - التي تطبق مشروعاً متكاملاً في بيئة عربية وإسلامية رخوة - أن يؤدي فعلاً إلى إنشاء دولة فلسطينية على معظم أراضي 1967، وأن يتم التفاهم حول وضع المستوطنات خصوصاً أن «أوسلو» قرر وقف الاستيطان خلال المرحلة الانتقالية، وهل تخضع لإسرائيل أم أن سكانها أجانب في دولة أخرى، كما كان القرار أن يتم التفاوض حول القدس والحدود واللاجئين وحق عودتهم والمياه ثم التعاون الإقليمي الثنائي والدولي. هذه الصورة الوردية تعثرت في التطبيق. ولذلك فإن صيغة «خذ وطالب» كانت تصلح مع الاستعمار التقليدي، لكنها لا تصلح مع مشروع استعماري استيطاني إحلالي يؤسس لنفسه أيديولوجية سياسية وتاريخية ودينية، ولكنه في واقع الأمر يعتمد على منطق القوة البحتة، بكل ما تعنيه القوة، بما في ذلك تمزيق الخصوم وتفريقهم وشق صفوفهم والأعمال اللاأخلاقية كافة ما دامت لازمة لنجاح المشروع. لا بد من أن عرفات أدرك طبيعة المشروع الصهيوني واستراتيجيته، ولكنه – لاعتبارات سبق شرح بعضها – راوده الأمل في تغير هذه الطبيعة، خصوصاً بعد أن اقتسم مع رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق رابين جائزة نوبل للسلام، وبعد ارتفاع أصوات في إسرائيل تؤيد السلام مع الفلسطينيين، وربما التبست على عرفات تطورات المشروع الصهيوني، أو لعله ظن أنها الفرصة الأخيرة بعد انفضاض المعسكر العربي وتراجعه وصعود نجم المشروع الصهيوني. وإذا كان هذا أحد عوامل تفكير عرفات، فإن الوجه الآخر لهذه المعادلة الخطيرة هي أن كل زعيم يريد أن يكتب الفصل الأخير للقضية حتى لو كان في ذلك تفريط في ثوابت الموقف الوطني. ولذلك بدأ عرفات في تطبيق اتفاق أوسلو بعد أن أعلن في واشنطن يوم التوقيع بأنه بهذا الاتفاق تبدأ خطوات طريق الدولة الفلسطينية، وقد لاحت له في الأفق القريب مآذن القدس وتسبيح المصلين. ولكن اللافت أن عرفات رد على منتقديه، خصوصاً من مصر التي شهد رئيسها على أوسلو، بأنه سار على طريق السادات وكأنه ظن أنه حجة على غيره، بل تجاهل الفارق الهائل بين مصر ومنظمة التحرير. خلال تطبيق أوسلو أظهرت إسرائيل أنيابها وتفرق العرب تدريجاً، ولكن عرفات عمد إلى التركيز على السلطة التي نشأت بموجب ذلك الاتفاق، وأضعف منظمة التحرير، ربما ليقضي على خصومه أو زملائه الكبار، كما تجاهل مؤسسات المنظمة، على رغم أن السلطة موقتة وسلطاته بموجبها محدودة وإدارية، وأن المرجعية الحقيقية كان يجب أن تكون منظمة التحرير. هكذا استمر الاندماج في السلطة بديلاً من المنظمة، كما استمر تراجع المنظمة لمصلحة السلطة، فقطعت إسرائيل بذلك خطوط عرفات خارج فلسطين بعد أن استخلصت منه اعترافاً بها، لم يقابله سوى إقرار من جانب الدولة العبرية بأن المنظمة وليس عرفات هو الموكل بالحديث عن الشعب الفلسطيني. لم يدرك عرفات أن وظيفة رئيس السلطة هي حراسة إسرائيل من أي هجوم من داخل أراضيها. ولما لم يتمكن عرفات من تحقيق التوازن بين دعم المقاومة، والوفاء بمتطلبات السلطة كما رأتها إسرائيل، كان من الضروري أن يختار بين الفرار أو الشهادة، فاختار الشهادة!. ثانياً: أوسلو في سياق المشروع الصهيوني: لا يجوز أن يغفل أي باحث عن أن إسرائيل هي التجسيد المادي والإقليمي للمشروع الصهيوني، وأن إسرائيل تريد كل فلسطين. ولذلك فإن أي حديث إسرائيلي عن عملية السلام أو دولتين أو أي حقوق للشعب الفلسطيني هي من قبيل الخداع الذي لا يجوز أن ينطلي على الباحث الأريب، مهما بدا من مظاهر حسن النيات واستقامة القصد. وتطبيقاً لذلك، مارست إسرائيل أكبر عملية خداع للعالم كله عندما قدمت نفسها على أنها دولة ترغب في العيش الآمن بحدود آمنة ومعترف بها، على رغم أنها يجب أن تلتزم الحدود المرسومة لها في قرار التقسيم، وسمح الوفد الأميركي في الأممالمتحدة عام 1949 أن يقرر أن إسرائيل دولة بلا حدود وأنه يجوز أن تكون الدولة بلا حدود ولا ينتقص ذلك من أهليتها لعضوية المنظمة الدولية. وابتلعت الوفود العربية هذا الطعم وراحت تعترض على عضوية إسرائيل لأنها لم تحدد حدودها، أي أن الوفود العربية تجاهلت حدود قرار التقسيم، ففتح ذلك الباب لإسرائيل لأن تعتبر أن حدودها النهائية لن تتحدد إلا بمقدار قدرتها العسكرية على هزيمة الخصوم وضم أراضيهم وبخاصة أرض «الأجداد». ولذلك كان اتفاق أوسلو في إطار المشروع الصهيوني محطة متميزة من محطاته، بدأت بنقطة الانطلاق بقرار التقسيم ثم إنشاء الدولة ثم عضويتها في الأممالمتحدة ثم ضرب المشروع التحرري العربي كله عام 1967 فانطلق بعد ذلك إلى عزل مصر 1979، واحتلال بيروت عام 1982، ثم «أوسلو»، فوادي عربة. أهم ما يميز أوسلو عن غيرها من المعاهدات الإسرائيلية مع مصر والأردن هو أنه أول اتفاق مباشر بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد كتب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مذكراته عن هذا الاتفاق ما يثير الشك حول فائدته للفلسطينيين، فضلاً عن أن رابين اعتبر بطلاً في قومه، ولا يمكن أن يكون الاتفاق بين الضحية والجلاد إلا موقتاً ولصالح الجلاد، وليس للضحية سوى أن تشعر للحظات بالرضا لأنها أصبحت طرفاً مع الجلاد في اتفاق. تمكنت إسرائيل باتفاق أوسلو من أن تشهد العالم على أنها تريد السلام والطرف الآخر هو الذي يريد الحرب، وأنها تريد التسوية، كما كسبت الأهم وهو اعتراف الضحية بها وبما حصلت عليه وما سوف تحصل عليه ما دام الاعتراف الفلسطيني لم يحدد أي نوع وحجم لإسرائيل التي يعترف بها. تمكنت إسرائيل بالاتفاق نفسه أيضاً من توطين قيادة الثورة الفلسطينية وتدجينها بل وإرغامها على ما يشبه التوبة عن ممارسة «الإرهاب» - المقاومة، وتركت عرفات يحلم كما يشاء ما دام في قفص إسرائيل. لذلك كانت وظيفة رئيس السلطة هي التصدي لقومه نيابة عن إسرائيل، فنشأت شراكة مسمومة بين قيادة السلطة وإسرائيل ضد معارضي هذا «السلام» الجديد. أهمية هذا الاتفاق لإسرائيل أنه كان يعكس قوة إسرائيل في مواجهة الطرف الفلسطيني الضعيف وتضمن أحكاماً تعلم إسرائيل جيداً أنها لن تنفذ، ولذلك استنفدت أغراضها سريعاً. ومن مزايا هذا الاتفاق لإسرائيل أنه فصم الطابق العربي عن اللحمة الفلسطينية، فصارت لقمة سائغة لإسرائيل، ولذلك عندما ظهرت المبادرة العربية للسلام عام 2002 كانت ثمرة لتفاعلات الاتفاق وجهود شارون التي بدأت منذ شباط (فبراير) 2001 في القضاء على الانتفاضة بطريقة مبتكرة. والنقطة الحرجة التي أدركها عرفات أخيراً هي عندما انفردت به إسرائيل وتخلى العالم العربي بموجب «أوسلو»، وعجز عرفات عن أن يكون حارساً لأمن إسرائيل وأميناً على القضية. ما هو مصير أوسلو؟ «أوسلو» في نظر الفلسطينيين محطة انتقالية صوب الدولة واستيعاب إسرائيل في المنطقة، بينما الاتفاق نفسه بالنسبة لإسرائيل محطة جديدة بالغة الأهمية في المشروع الصهيوني نزعت عن الفلسطينيين الحماية العربية التي ظنها الفلسطينيون يوماً قيداً على «القرار الوطني المستقل». فأوسلو ملتقى نهايات: نهاية المعاناة للفلسطينيين، ونهاية الصراع للإسرائيليين. كان يفترض أن ينهي «أوسلو» نتائج مفاوضات الوضع النهائي عام 1999 حتى تحل محله اتفاقية السلام مع إسرائيل، وكان يفترض أن تظل منظمة التحرير سنداً لجهود السلطة ومتحدثاً رسمياً مع إسرائيل، ولكن انقضت الفترة الانتقالية ولم يعد هناك أساس قانوني للسلطة القائمة فتحولت ضد المقاومة وتخلت إسرائيل تماماً صوب مشروعها، وصار أوسلو محطة تاريخية للتصفية، ولذلك فإن الحالة الفلسطينية الراهنة ورهان إسرائيل لم يكن مفاجئاً، وإنما المفاجأة هي في ما يحمله المستقبل في السنوات المقبلة. * كاتب مصري