الفن الروائي يعرف اليوم رواجاً في العالم العربي لم يعرفه سابقاً. الروايات يتوالى صدورها والجيل الجديد من الكتّاب بدا يميل إلى الرواية اكثر منه الى الأنواع الأخرى. هنا عودة الى مفهوم السرد العربي كما تجلى في عصور متوالية. ظل النقد في الغرب كما في الشرق حتى السبعينات من القرن الماضي يدور حول حياة الكاتب وعصره ونفسيته، والإطار الاجتماعي الذي يعيش فيه، ولكن مع بروز الألسنية انتقلت الأبحاث والدراسات النقدية الى إعطاء النص أهميّته، والقارىء مكانته، ثمّ انتقلت تالياً الى البحث في معالجة الكلام، أو ما يطلق عليه اليوم الخطاب في أبعاده الشعرية والنثرية، مهتدية بأعمال سوسور وبنفنيست وياكبسون. كانت السيميائية الفرنسية التي استلهمت في أبحاثها الأسماء المذكورة، تبحث بعد أن تعرّفت على كتاب فلاديمير بروب «مورفولوجيا الحكاية الخرافية» عن إمكان تطبيق النتائج التي توصّل اليها بروب، حول الملامح البنيوية الثابتة التي تتكرّر أشكالها في القصة الخرافية على النص السردي بوجه عام. من هنا كان الجهد منصبّاً لدى الباحثين على منافسة «الشعرية» التي تحاول استنباط القواعد التي تتحكّم بالشعر، وتكشف عن أدبيّته بإيجاد «شعريّة» تتعلّق بالنثر أطلق عليها «السردية» تكشف المكوّنات الأساسية للسرد من تراكيب وأساليب ودلالات. طرحت السيميائية الفرنسية مع بارت وتودوروف وجينيت وغريماس (أستاذي في التحضير لشهادة الكتوراه في باريس) أن أيّ نص سرديّ يتكوّن من سارد أي من راوٍ ومن مسرود أي مجموعة الأحداث والأعمال التي تتوالى وتعطي للقصة معنى، وأن المسرود اهتداء ببروب يخضع لقوانين عامة وثابتة سمّاها بروب الوظائف مثل وظيفة النأي، وظيفة المنع، وظيفة انتهاك المنع إلخ...، وأن هذه الوظائف التي يبلغ عددها إحدى وثلاثين وظيفة يمكن أن تكون أنموذجاً فعّالاً قابلاً للتطبيق جزئياً أو كليّاً على كل قصص العالم. لم تحرّك أبحاث بروب فقط سيميائيي السبعينيات في فرنسا، وإنما حركت عدداً كبيراً من السيميائيين والأكاديميين العرب، في العمل ليس على القصص الخرافي وحسب، وإنما أيضاً على الحكايات الشعبية ( ألف ليلة وليلة) والسير الشعبية، والمقامات، والقصص الدرامية، وإلى ما هنالك من أنواع أدبية كالأمثال والنوادر والطرائف، يحدوهم هدفان أولهما إعادة الاعتبار الى الأدب الشعبي العربي، وثانيهما استنباط الأسس والقواعد التي يقوم عليها فعل السرد، وما يتعلّق بذلك من نظم تحكم إنتاجه وتلقّيه. يدور كتاب «فلسفة السرد» (دار ضفاف ودار الاختلاف) حول السرد في النصوص العربية التراثية ويشارك في هذا الكتاب مجموعة من الباحثين والأكاديميين. منهم من بحث في المنهجية التي اتبعها بروب ومن جاء بعده، عاملاً في نفس الاتجاه أمثال جينيت، وبارت، وتودوروف، وغريمس، ومنهم من لجأ إلى البحث في فلسفة السرد على طريقة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. وقد كانت جهود المشاركين متنوّعة، ولكنها تصبّ في مجرى واحد هو التثاقف الفعّال بين النص العربي والتنظير معربّاً ومطبّقاً على نصوص من التراث العربي في وجهه الشعبي. نصوص عربية اتخذت السرديات الغربية نسقاً يسعى إلى استقراء القوانين الكلية التي تنظّم عمل كل الأنواع السردية، هكذا فعلت السرديات العربية في عكوفها على دراسة النصوص التي تمثّل فعل السرد في التراث العربي، وبخاصة فعل السرد في، «كليلة ودمنة» لابن المقفّع، و«البخلاء» للجاحظ، والمقامات للهمذاني و«الإمتاع والموءانسة» للتوحيدي. في بحث أحمد علواني حول «كليلة ودمنة» إشارة إلى أن ابن المقفع لا يقدّم نصائحه السياسية إلى الحاكم والرعية في صورة نظرية وعظية، وإنما في صورة رمزية سردية تتصل بواقع المجتمع وظروفه السياسية وعلى هذا الأساس نجد أن الشخصيات في قصص الحيوان ترمز إلى طبقات المجتمع المختلفة، وما به من رؤساء ومرؤوسين. فلا يأتي السرد لمجرد التسلية، أو قتل وقت الفراغ، أو للتندّر والتفكّه الساحر، وإنما هو دعوة على لسان الحيوان إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وبذلك تتجلّى وظيفتان للسرد: الوظيفة الأولى شكلية سردية تحمل في طيّاتها أغراضاً جمالية، وربما إمتاعية، الوظيفة الثانية باطنية مضمونية، تحمل في داخلها أغراضاً إصلاحية سياسية. يتناول عبد المجيد مسالتي في بحثه النص السردي عند الجاحظ، ويتوقّف عند هذا النثر الذي شكّل نقطة تحوّل في الثقافة العربية. إنه تحوّل من نظرة وجدانية الى أخرى عقلية، فبعد أن كانت الثقافة العربية قبل الجاحظ تخاطب الأذن بالجرس والنغم، أصبحت مع الجاحظ تخاطب العقل بالفكرة، إنه انتقال من البداوة واسترسالها مع الشاعر الى حياة المدنية، وما يكتنفها من وعي العقل ويقظته مع الناثر. وفي مقارية الباحث لظاهرة الاستطراد / التناقض يعتبر أن الاستطراد عند الجاحظ ليس لعبة بلاغية بل قيمة ثقافية معارضة تتوسّل بالسخرية، وباللاجدية لكي تمرّر معارضتها للنسق المهيمن، فتقوّضه عبر لعبة السخرية. مظاهر سردية أما في بحث عبد القادر نويرة حول المقامة لفت الانتباه الى أن المقامة تعدّ من أكثر الفنون الأدبية النثرية التي أخذت بحظ وافر من الصنعة اللغوية، والمحسّنات اللفظية إضافة الى أنها تجعل الحركة السردية للشخصيات تتوارى خلف كثافة الأسلوب ووعورته. وينقل الباحث أن أهمّ المظاهر السردية في المقامة هي عملية إسناد مؤلفها القول على النمط الخيالي إلى شخصية أو أشخاص عدة. فالمؤلف لايتكلّم بنفسه، وإنما يفوّض فعل الكلام إلى شخصية متخيّلة، وبهذا الطرح - إسناد الخطاب إلى أشخاص متخيّلة - يجعل من المقامة شكلاً أدبياً جامعاً لكل أنواع الحكي التخييلي. قد يكون أبوحيان التوحيدي الذي يهتم ّبه محمد المسعودي في بحثه من أهم الساردين العرب فكتبه «الإمتاع والمؤانسة» و «أخلاق الوزيرين»، «الصداقة والصديق» و «الإشارات الإلهية» تدلّل على ذلك، ويكشف كتابه «البصائر والذخائر» أنه من الأوائل عند العرب في الاهتمام بالتراث النثري، فقد حفل كتابه المذكور بمرويّات متنوّعة من أدب الأمثال والنوادر والطرائف والملح. والملحة النادرة سرد مكثّف لحادثة طريفة ساخرة ترد غالباً في شكل خبر قصير يعرّفها التوحيدي بقوله «ملح النادرة في لحنها وحرارتها فيحسن مقطعها، وحلاوتها في قصر متنها». ولا يكتفي التوحيدي بوضع خطاطة نظرية لمكوّنات النادرة، بل يرسم أفقاً لكيفية عرضها وتقديمها في سياق حديث المؤانسة مركّزاً على ما ينبغي أن يتميّز به راويها / ساردها حتى يمتّع متلقيّه، ويحقّق شروط «طقس المؤانسة» على أكمل وجه. وفي هذا الإطار النظري الذي حدّده التوحيدي للنادرة، نكتشف أنها مكوّن أساسي من مكوّنات «الإمتاع والمؤانسة» إلى جانب ثلاثة أنواع سردية أخرى، وهي الخرافة والمثل والحكمة. هذه الأنواع التي شكّلت حديث المؤانسة، ووحّدت بين السارد / المرسل (التوحيدي) وبين المسرود له /المتلقّي (الوزير ابن سعدان) اللذين امتثلا لطقس سردي عريق في «السردية العربية» له قواعده الجمالية وسياقاته المعرفية ووظائفه الأدبية، وهو فن «المؤانسة / المجالسة». ولا يكتفي التوحيدي بتعريف مكوّنات النادرة، وإنما يعرّف أيضاً الخرافة من خلال سماتها وأهمّ مكوّناتها، هي الغرابة التي تعني البعد عن الواقع واستحالة تحقّق ما يتضمنه نصّ الخرافة في الحياة الملموسة، وهي لا تخرج عن الحديث عن عجائب البحر وغرائبه وارتباطه بالغامض والمجهول، وعن حديث السحر الذي لا يخلو بدوره من غرابة وعجب، وأخيراً حديث الجن بما يكتنزه من حالات إدهاش ورعب، وما يتّصل به من تحوّل وتغيّر في طبائع الأشياء. والتوحيدي بهذا التحديد يقف عند أهم ملامح «السرد الفنتاستيكي» كما ستقنّنها الدراسات الغربية الحديثة، لا بل يتجاوزها أحياناً رغم الفروقات في الزمن.