«... وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربياً أعرابياً، وإسلامياً جماعياً، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة، وإحساس الغريزة. ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك. ويشتهيه اللاعب ذو اللهو، كما يشتهيه المجدّ ذو الحزم. ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب. ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن». بهذه العبارات قدم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ واحداً من أفضل كتبه وأشهرها: «الحيوان»... وهو في هذا التقديم كان يسير على درب لم يحد عنها أبداً في مجال وضعه لكتبه. فهو، وبحسب ما يفيدنا المؤرخ محمد كرد علي: «ما كتب وألف إلا عن باعث، وكان في الأكثر يتقدم فيعرض ما حمله على التأليف». وهو بهذه العبارات حدد هدفه وغايته، كما وصف كتابه قبل أن يواصل قائلاً: «وليس هذا الكتاب، يرحمك الله، في إيجاب الوعد والوعيد، فيعترض عليه المرجئ، ولا في تفضيل علي فينتصب له العثماني، ولا هو في تصويب الحكمين فيتسخطه الخارجي، ولا هو في تقديم الاستطاعة فيعارضه من يخالف التقديم، ولا هو في تثبيت الإعراض فيخالفه صاحب الأجسام، ولا هو في تفضيل البصرة على الكوفة، ومكة على المدينة، والشام على الجزيرة. ولا في تفضيل العجم على العرب، وعدنان على قحطان وعمرو على واصل، فيرد بذلك الهزلي على النظامي، ولا هو في تفضيل مالك على أبي حنيفة، ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النابغة، وعامر بن الطفيل على عمرو بن معدي كرب، وعباد بن الحصين على عبيد الله بن الحر، ولا في تفضيل ابن سريج على الغريض، ولا في تفضيل سيبويه على الكسائي، ولا في تفضيل الجعفري على العقيلي، ولا في تفضيل حلم الأحنف على حلم معاوية، وتفضيل قتادة على الزهري، فإن لكل صنف من هذه الأصناف شيعة، ولكل رجل من هؤلاء جنداً، وعدداً من مخاصميهم وسفهائهم، والمتسرعون منهم كثير، وعلماؤهم قليل، وإنصاف علمائهم أقل...». إذا كنا أسهبنا هنا في نقل هذه الفقرة من تقديم الجاحظ لكتابه «الحيوان»، فما هذا إلا عن تعمّد، ذلك أن الجاحظ هنا، في معرض حديثه عما لم يرد لكتابه أن يكون، عرف كيف يستعرض جملة المعارك والمواقف الأدبية والفكرية والسياسية وحتى الفقهية التي كانت الحياة الثقافية العربية تعرفها في ذلك الحين. ومن الواضح هنا، لمن يقرأ بين السطور، أن عرض الجاحظ السلبي هذا، ليس حيادياً بين شتى المواقف المتنازعة. فهو في نهاية الأمر عرض نقدي واضح يضع نفسه على مسافة بين الأفكار المتصارعة. ومن هنا عرف الجاحظ كيف يجعل من كتاب - يراد له أصلاً أن يكون علمياً موسوعياً - نصاً أيديولوجياً بامتياز. ذلك أن الجاحظ الذي كان ناثراً مميزاً وكاتباً موسوعياً، ورجلاً خبر الدنيا وغالباً من موقع السوداوية والتشاؤم، كان أيضاً صاحب قضية فكرية وسياسية، هو الذي كان من أوائل المعتزلة وأكثرهم نشاطاً وحضوراً، ناهيك بكونه بينهم الأكثر اتجاهاً نحو الآداب والعلوم. وهو أمر ميّزه عن رفاقه مفكري الاعتزال الآخرين. ومن هنا انتهز الجاحظ أي فرصة تتاح له لوضع كتاب، أو رسالة، حتى يجعل من النص، في متنه أو في تقديمه، أو حتى في استنتاجاته، سلاحاً في معركته الفكرية. وإذ نشير إلى هذا، ليس في وسعنا هنا أن نغض الطرف، طبعاً، عن أن أساس كتاب الحيوان هو أن يكون كتاباً في العلوم الطبيعية، فإذا كان هذا الكاتب المفكر - وكما يقول لنا مؤرخو التراث العربي - استمد كثيراً من المعلومات التي ترد في «الحيوان» من الروايات العربية ثم ملأه «بالشواهد الأدبية والقصص الشائعة»، «فإنه كان ذا ميل صحيح إلى العلوم الطبيعية». ما جعل كتابه هذا يمتلئ بملاحظات قيّمة حول التطور وأثر البيئة، وعلم النفس عند البشر، والغرائز عند الحيوان. وإلى هذا فإن الجانب التجريبي في الكتاب بارز جداً... وفوق هذا كله، جعل الجاحظ في ثنايا كتابه هذا، يدافع عن مذهب المعتزلة، تماماً كما فعل في ثنايا «البيان والتبيين»، كتابه الكبير الآخر... وهما معاً كتابان ذكر أبو علي الحسن بن داود فضلهما حين قال: «فخر البصرة بأربعة كتب: «كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الحيوان له، وكتاب سيبويه وكتاب العين للخليل». ولئن كانت مصادر المستشرقين، بحسب محمد كرد علي زعمت أن كتاب «الحيوان» أقرب إلى أن يوسم بكتاب أدب، منه إلى أن يعد كتاباً في طبائع الحيوان، فإن كرد علي نفسه يستطرد قائلاً في معرض رده على هذا الزعم: «إن ما حققه الجاحظ في صفوف الحيوان قبل غيره من العرب والعجم، كاف بأن يعد السابق المبرز في هذا الفن، والشعر الكثير الذي نقله لا يزري بهذا الفن، وهو يملي على الناس روح عصره... خصوصاً أن الجاحظ كتب كتابه أوائل القرن الثالث من الهجرة». صحيح - يقول كرد علي - أن في الكتاب «خلاصة من الشعر الجيد، وأجمل الحكايات والنوادر، ومنها ما كان من الأدب الرفيع، وهناك أمتع الفوائد الأدبية والمسائل الدينية»، لكن «أجمع من هذا كلامه على أجناس الحيوان» وهو ما كتب «ما كتب فيه إلا عن تجربة وعيان، وفيه كلام على الناس وبلادهم وهوائهم وأمزجتهم وعاداتهم، وغير ذلك مما لا يظفر به باحث في كتاب واحد». واللافت أن الجاحظ، إذا كان ينقل عن معلومات الذين سبقوه، كان لا يفوته أيضاً في الكثير من تأكيداته أن يستند إلى أقوال العامة، إضافة إلى أنه في مرات عدة أخرى، وقبل أن يخط المعلومة، كان يعمد إلى أن يجرب بنفسه ما يريد الحديث عنه. ومن الأمور ذات الدلالة في هذا السياق ما يقوله المستشرق اي. جي. براون في كتابه «تاريخ فارس الأدبي»، لدى حديثه عن الجاحظ من أن هذا الأخير حين أراد أن يحكي ما تزعمه العامة من «أن الأفاعي تكره ريح السذاب والشيح وتستريح إلى نبات الحرمل، أراد أن يجرب ذلك بنفسه فألقى على رأس الأفاعي وأنفها من السذاب ما غمرها، فلم يجد دليلاً على ما قالوا». وفي معرض حديثه، مثلاً، عن الجمل، حكى الجاحظ أن العامة في البصرة كانوا يقولون إن الجمل إذا نحر ومات فالتمست خصيته وشقشقته تبين أنهما لا توجدان، لكن الجاحظ تشكك في هذا الأمر ولم يهدأ حتى استوثق بنفسه من أن ذلك من غرائب الخرافات... الخ. بهذا وغيره من ضروب التجريب العلمي، طبع الجاحظ كتابه «الحيوان» كما طبع الكثير من كتبه الأخرى، وذلك في الوقت نفسه الذي لم يترك صفحة أو فقرة إلا وعرج على المسائل الأيديولوجية التي كانت تشغله، وتشكل خلفية معاركه ولا سيما مع الشعوبية، ومع مؤرخي أو أدباء عصره المعارضين، خصوصاً، للمعتزلة. ولد الجاحظ في البصرة أوائل عام 150 الهجري، وكان جده زنجياً أسود. وهو قدم إلى بغداد في صباه، ونادم الوزير ابن الزيات خلال خلافة الواثق، فلما قتل المتوكل وزيره ابن الزيات سعى الجند للقبض على الجاحظ، لكن هذا أفلت منهم بمعجزة، ما نجّاه من مصير بائس. لكن مصير الجاحظ المعيشي كان بائساً على أي حال، إذ أنه - وكما يذكر لنا كارل بروكلمان - كان عاجزاً عن تدبير أموره. وهو كان معتزلياً على مذهب النظام، ومع هذا عرف مذهبه المعتزلي بالجاحظية. وقد ألف الجاحظ في شتى العلوم والآداب. ومن كتبه الشهيرة: «البخلاء» و «رسائل الجاحظ» و «البرصان والعرجان...» و «صناعة الكلام» و «الرسالة العثمانية» و «العبر والاعتبار» وعشرات غيرها كتبها خلال عمر امتد به حتى أصيب بالفالج وهو في التسعين، فعاد إلى البصرة حيث اعتكف في مكتبته حتى عجز تماماً فتساقطت عليه كتبه، ذات يوم كما تقول الحكاية، ومات. [email protected]