ليس من الضرورة أن تجد المثاقفة التحقيبية في الثقافة الواحدة أو في تبادل الخبرات الثقافية بين الأمم والشعوب ظاهرة قارة عند الجيل الواحد القابلة مرحلته للتثاقف، من حيث الكم والكيف. ومن حيث تعدد المشارب، وتنوعها، ومستويات الوعي، وتحقق المؤهلات القادرة على التثاقف. فقد تجد مجموعة من المثقفين المتعاصرين المشتغلين بفن واحد من فنون المعرفة، أو بجانب واحد من جوانب الثقافة وهم من المبرّزين في عصرهم، أو في جيلهم، ويعيشون حراك التثاقف، لكنهم في معطيات المثاقفة قرباً وبعداً واستيعاباً كأولاد العلاّت بينهم من الاختلاف في التعامل مع المثاقفة مادة ومنهجاً ما يدفع إلى التسليم باختلاف وتعدّد المتلقين للثقافة، وهذا يعود في الأساس إلى طبيعة المكوّن الثقافي، وعدم تجاوز الانفعال به إلى الفعل فيه، وبالتالي بناء معرفة جديدة، وفضاء ثقافي جديد. إذ أن كل ثقافة حية يفترض فيها أن تفتح آفاقاً جديدة لثقافة تولد من جديد وإلا كيف يتم التراكم الثقافي الذي يأخذ بعضه بحجز بعض نحو اتساع الرؤية الكونية. ويحضرني في هذا الشأن صورة من صور المثاقفة التراثية عند ثلاثة من أبرز الكُتَّاب في القرن الثالث الهجري تربط بينهم وشائج وعلاقات كان بإمكانها أن تجعلهم في قرن واحد وفي طبقة أدبية واحدة فيما يتعلق بتشاكلهم الثقافي مع ثقافة الآخر. وهؤلاء الكُتَّاب هم: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255ه. وأبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276ه. وأبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرّد النحوي المتوفى سنة 285ه. فهؤلاء الثلاثة هم أشهر كُتَّاب القرن الثالث الهجري. وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة أن دواوين الأدب ومصادره أربعة ثلاثة منها لهؤلاء الكُتَّاب الثلاثة وهي: كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة والكامل للمبرِّد. فانظر إلى تأثيرها في مكوّنات الأدباء، والكُتَّاب، والدارسين منذ منتصف القرن الثالث الهجري إلى أوائل القرن التاسع الهجري الذي توفي في أوله ابن خلدون، وما استتبع ذلك من تأثير حتى يوم الناس هذا. وكُتَّاب القرن الثالث الهجري الثلاثة تربطهم إلى جانب علاقة المعاصرة علاقة العلم. فالجاحظ أستاذ المبرد تعليماً، ومذهباً عقدياً. وقد أجاز الجاحظ بعض كتبه لابن قتيبة. وكان هذا رأس أهل السنة في زمانه، والجاحظ رأس المعتزلة في ذلك الزمان. ولم يكن اختلاف المذهب بينهما معوِّقاً يحول دون تثاقفهما. فقد كان ابن قتيبة يأخذ عن الجاحظ بعض المعارف العامة، ويرد عليه في قضايا المذهب الاعتزالي. إن هذه العلاقات المعرفية التي كانت قائمة بين أبرز كُتَّاب القرن الثالث الهجري ما كانت لتشكل ذهنية واحدة فيما يتعلق بالمثاقفة الغيرية. فقد كانت أصول التشاكل المعرفي العربي واحدة. لكن تثاقف هذه الأصول مع مستجدات الثقافة في ذلك العصر عند هؤلاء الكُتَّاب كان مختلفاً من كاتب إلى آخر. فقد كان الجاحظ وهو أقدم الثلاثة حياة ووفاة أكثرهم وعياً وأنضجهم طبعاً، وأكثرهم هضماً لمعارف عصرهم. وهو صاحب الذهنية الحرة الناقدة التي تثاقفت مع مستجدات المعارف في عصره تثاقفاً متطوراً. غير أن هذه الذهنية العلمية المتطورة لم تستطع أن تؤثر فيمن أجازت له بعض كتبه وهو ابن قتيبة إذا ما استثنينا أثر الثقافة العربية الخالصة. وقد عجزت ثقافة الجاحظ عن تشكيل ذهنية التلميذ المبرد. أو قل لعل ذهنية هذا لم تكن على استعداد لتطوير ذاتها العلمية حتى تصبح قادرة على التثاقف. ولهذا كذلك علاقة وثيقة بالمكون الفطري المركوز في الطبائع مما لا يمكن إنكاره. لقد أدرك الجاحظ أن المثقافة الواعية التي توسِّع الرؤية تقوم أول ما تقوم على إشاعة الحرية، التي تعد المنطلق الأساس في بناء الثقافة، فهي وقود كل إصلاح ثقافي. هذا ما أشار إليه الجاحظ في الجزء الأول من كتابه الحيوان في قوله: (وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه، وقد أمكن القول، وصلح الدهر، وخوى نجم الثقة، وهب ريح العلماء، وكسد العي والجهل، وقامت سوق البيان والعلم). ولعلك تلمس هذا الانفتاح الثقافي في كل ما كتب الجاحظ الذي أعطى عقله حقه وحريته في ممارسة مهماته الثقافية. فالعقل الذي حاول أن يعطل فضاء النص اليقيني في المنهج الاعتزالي وسع الرؤية الكونية في حدود مدركاته. أنظر إلى حديث الجاحظ في كتاب البيان والتبيين عن عيوب النطق وما يعتري اللسان من ضروب الآفات الخلقية. فقد أشار إلى شيء من ذلك عند العرب، وعند غيرهم. ومدى تأثير ذلك على البيان. ولم يقف عند حدود العرض النظري لعيوب النطق بل قامت التجربة عنده على ذلك كما نقلها عن محمد بن عمرو الرومي وكما شاهدها الجاحظ في كلام غير واحد. وقد أكد درسه وبحثه عن تلك العيوب اللسانية بما نقله عن أرسطو طاليس وهنا موقع المثاقفة الغيرية، فقد نقل عن صاحب المنطق ما يلحق بلسان الطائر، والسبع، والبهيمة من عيوب النطق. وفي تعريف الجاحظ للبلاغة نقل تعريفها كذلك عند مختلف الأمم وأفاد من ذلك في دراسته صفات الألفاظ، ومقاييس المعاني. ولم يكتف بنقل من قال: إن الخطابة شيء في جميع الأمم، بل كشف كثيراً من خصائص بعض تلك الخطابة العجمية. من مثل خطابة الزنج، وخطابة الفرس. وامتدح منطق اليونان العقلاني حين وجد في عقله هوى لها، كما امتدح كتب الهنود في حكمها وأسرارها، وسيرها، وعللها. ولم ينقل عن صاحب المنطق في كتاب البيان والتبيين إلا في مواضع ثلاثة، ونقل عن غير واحد من غير العرب. أما كتاب الحيوان فقد نقل فيه عن صاحب المنطق عشرات النصوص فيما يتعلق بحياة الحيوان، نظراً لتوافركتاب الحيوان لأرسطو تحت نظر الجاحظ. وتثاقف الجاحظ مع أرسطو في حياة الحيوان لم يكن تثاقفاً نقلياً. لقد كان الجاحظ يناقش مقولات أرسطو في حياة الحيوان مناقشة العالم بأسرار تلك الحياة. فقد كان يوافق صاحب المنطق في بعضها، ويرد عليه في أخرى. ويهجّن بعض ما جاء عند أرسطو. والجاحظ كثير الانتقاد لبعض الوسطاء التراجمة ممن تنقصهم دقة الآلة. وضيق الأفق المعرفي. فالمترجم في نظر الجاحظ ينبغي أن يكون في مستوى مؤلف الكتاب المترجم وواضعه. ونقده بعض الكتب المترجمة نابع من تمكنه بمعرفة مستويات الكلام في أي حقل من حقول المعرفة وما يطرأ عليها من خلل يحدثه الوسيط الناقل لذلك الكلام. وقد اتفق الجاحظ مع صاحب المنطق في النتاج الحيواني المركب وأن شهادة أرسطو في ذلك قد حققها الامتحان التجريبي. ورد على أرسطو في عداوة الثعلب للزّرّق. لأنهما من أكلة اللحوم. فلو زعم أرسطو أن عداوة الثعلب يعم أكلة اللحوم لكان ذلك أجوز. ولعل المترجم قد أساء في الإخبار عن ذلك كما هي إشارة الجاحظ الذي احتاط بهذه الإشارة عن وقوعه في اتهام أرسطو اتهاماً غير حقيقي. وهذا من شيم العلماء المدققين الذين يبحثون عن الحقائق العلمية، ولا يتسرعون في تجهيل نظرائهم من العلماء. وقد تردد الجاحظ في موافقة أرسطو في حياة طائر من عجائب المخلوقات، لم يسقط قط إلا وقت خروجه من بيضه، وأن رزقه من بعوض الهواء، وأشباه البعوض، وهو قصير العمر سريع الانحطام. وقد استغرب زعم صاحب المنطق في أن الكلاب السلوقية إذا تقدم بها السن كان ذلك أقوى لها على المعاظلة. وذكر الجاحظ أن من الحيات ذوات شعر، وذوات قرون، وكان هذا محل إنكار من أرسطو. ولم يفهم الجاحظ قول أرسطو في علاج لدغ بعض الحيات بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك. ورد على أرسطو في تمازج الأرض، والماء، والنار، والهواء. وهجن قول صاحب المنطق أن ثوراً وثب بعد أن خصى فنزا على بقرة فأحبلها. وهجن كذلك ما ذهب إليه أرسطو في بعض صور حياة الضفادع، والسمك. ولما كان الجاحظ قد استثمر الشعر العربي للاستدلال على حياة الحيوان، فإنه لم يجد في هذا الشعر ما عالج حياة السمك. لذلك لم يفرد في كتاب الحيوان باباً أو مبحثاً لحياة السمك. وأن ما وجده عند أرسطو في هذا الجانب على كثرته لم يجد عليه من الشاهد إلا زعم أرسطو ودعواه. معرّضاً ببعض أقوال أرسطو في ذلك تعريضاً ساخراً. مشيراً إلى أن أشعار العرب تدل على غير ما ذكره أرسطو في عقوق العقاب. ألا ترى كيف بنى الجاحظ معرفة جديدة في حياة الحيوان من خلال مقولات أرسطو، ومن مادة الشعر العربي الذي وظفه الجاحظ لهذه المهمة الثقافية الجديدة، ومن معارف العرب، وغير العرب. إن هذا الوعي العميق بالمثاقفة يدلك على كثرة مصنفات وتآليف الجاحظ التي بلغت ثلاثمائة وستين مؤلفاً كما ذكر ذلك صاحب مرآة الزمان. وقد زاد غيره في عدد مصنفات الجاحظ. ولم يكن همه في ذلك كما أشار الأستاذ عبدالسلام محمد هارون في مقدمة كتاب الحيوان أن يقف بتآليفه عند حدود الجمع والرواية والحفظ، وإنما كان وكده أن يبتكر، وأن يطرف، وأن يخلق للناس بديعاً. وهذا الذي أشاع كتب الجاحظ بين القراء في حياته وبعد موته، وجعل الناس يتخطفونها من بيئة إلى بيئة. ومن جيل إلى جيل حتى يوم الناس هذا، وكتاب الحيوان الذي أطلنا الوقفة عنده فيما يتعلق بتثاقف الجاحظ في بعض مباحثه مع كتاب الحيوان لأرسطو قد كوّن نسيجاً ثقافياً من مادة الثقافة العربية. إذ لم تكن المادة الأرسطية عند الجاحظ تباصراً من الجاحظ لإظهار مهاراته العلمية. فقد كانت من الفائدة بمكان.فالجاحظ لم يقبل بها كما زعم أرسطو بوظائفها الحياتية، إذ كان للتجربة والامتحان مكانهما في نقده تلك المقولات الأرسطية. وقد وصف الجاحظ كتابه الحيوان بأنه: (كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم.. فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة). إن هذه الخلطة الجاحظية بين العلم النظري وعلم التجربة والامتحان يدلك على توفر شرائط المثاقفة في عصره من قيام الحاجة وهضم المستر فدا لغيري في أصوله الثقافية، وطبعه بطابع الثقافة العربية. ومما يدلك على روح الجاحظ الناقدة للمعرفة وتجرده العلمي فيما يكتب وعقليته المتقدة ما تلمسه من خبرته الواسعة الدقيقة بتحولات مجتمعة اجتماعياً ونفسياً. فأي تصوير نفساني ذلك الذي سطره في رصد حياة بخلائه في كتاب الطفيليين والبخلاء. وكيف كشف في مجموع رسائله كثيراً من صور الحياة الاجتماعية عند العرب وعند غيرهم. وكثيراً من طبائع الشعوب. فقدم بذلك ثقافة عربية جديدة لم نجدها عند صاحبيه ابن قتيبة والمبرد. ص. ب 1309 مكة المكرمة