أكبر شركات الاتصالات في جنوب أفريقيا، المملوكة بالمناصفة بين شركة تيلكوم المحلية وڤودافون البريطانية، تسمى ڤوداكوم. في عام 1996 نشرت هذه الشركة التي تشمل أعمالها العديد من الدول الأفريقية، لقاء مع نيلسون مانديلا على مجلتها، في مقدم اللقاء وصفت رئيس جنوب أفريقيا الأسبق مانديلا بأنه «بطل أصيل، إنه النسخة المعاصرة لأبراهام لينكولن وغاندي، وفي عالم يفتقر إلى الأخلاق السياسية، لا تزال كرامته الثابتة مشعة». بعد إعلان وفاة مانديلا، نزف كثير من الحبر، وخصصت الكثير من الدقائق التلفزيونية في وسائل الإعلام العربية والعالمية لتناول حياته، في هذه العملية تم إعادة تدوير الكثير من الصور عن حياته وشخصيته. على سبيل المثال، في قناة «السي إن إن» قال الصحافي فريد زكريا: «هذا رجل عاش فترة طويلة، وكان جزءاً من تراث المقاومة السلمية للاستعمار». وكتب يوسف الكويليت في صحيفة الرياض قائلاً: «إن مانديلا كان امتداداً لمدرسة غاندي الذي حرر بلاده بمبدأ اللاعنف»، مطالباً الوطن العربي الذي يتقاتل على كل شيء، ويبتكر أدوات العنف لأسباب واهية بأن يتخذ مانديلا قدوة له. وصل هذا التمجيد قمته عند مشاري الذايدي في صحيفة الشرق الأوسط، واصفاً إياه بأنه: «راهب النضال المدني، والتعالي على جروح الذات، لقد صور أيقونة خالدة مثل غاندي». إلى جانب صورة «بطل اللاعنف» هذه، نجد صورة القائد الذي نجح بإدارة عملية انتقال سلمي لجنوب أفريقيا من بلد الفصل العنصري إلى بلد إذابة الفروقات بين الأعراق، متوسلاً المصالحة بعصا سحرية. فعلى سبيل المثال، نجد هذه الصورة حاضرة في صحيفة الواشنطن بوست التي قالت إنه خرج من السجن «متبنياً أفكار المصالحة والمسامحة والتفهم»، وهو الأمر الذي ساعده في «الانتقال بجنوب أفريقيا من دكتاتورية عنصرية إلى ديموقراطية حقيقية». حسناً، هذه ليست سوى أساطير، لنبدأ بصورة النضال المدني فهي الأسهل. ففي عام 1961 ونتيجة للقمع الوحشي لأجهزة أمن الجنوب الأفريقي، قاد مانديلا ورفاقه من سود وهنود وشيوعيين تحوّل النضال إلى الكفاح المسلح، فتم تأسيس الذراع العسكري للمؤتمر الأفريقي القومي المسمى ب«نصل الأمة»، والذي بدأ بشن عملياته العسكرية ضد النظام، ابتداءً من كانون الأول (ديسمبر) 1961، وبسبب تأسيس هذا الجناح العسكري اعتقل كبار قادة الحركات النضالية المناوئة لحكم الأبارتهايد من سود وهنود وشيوعيين، وحكم عليهم بأحكام السجن المؤبد. وفي هذه المحاكمة ألقى مانديلا خطابه الشهير الذي كان بداية صعود اسمه عالمياً عند تشبيهه بمارتن لوثر كنج وغاندي، قال مانديلا مرة: «أنا أختلف عنهما، هؤلاء اعتبرا اللاعنف مبدأ، أما أنا فاعتبرته وسيلة». لننتقل الآن إلى مسألة المصالحة، إذا حصرنا معنى المصالحة بإلغاء قوانين الفصل العنصري واستبدال الواجهة السياسية البيضاء بأخرى سوداء، فإننا نستطيع بهذا المعنى أن نقول إن المصالحة التي قادها المؤتمر القومي الأفريقي بقيادة مانديلا حققت الكثير من النجاح، لكن في حال أننا أخذنا المصالحة بمعنى تجاوز حال الأبارتهايد العنصرية، فإننا سنجد أن سياسات مانديلا والمؤتمر الوطني لم تحقق هذا النجاح، بل نستطيع التجرؤ على القول أنها أخفقت في تجربتها. فالشعارات المرفوعة في فترة نضال الثمانينات عندما كان مانديلا في السجن، والذي أجبر الحكومة العنصرية على التفاوض والقبول بتشارك السلطة، كانت موجهة لعنصرية النظام بالمقدار نفسه الذي كانت موجهة إلى رأسماليته. في أحد الشعارات يقول: «الرأسمالية والأبارتهايد شرّان مقترنان، ويجب سحقهما سوية»، ومن ضمن الخطب التي ألقاها أحد قادة النضال في الثمانينات قوله: «الرأسمالية، وليس البيض، هو ما يجب على السود اتخاذه عدواً لهم». مانديلا وصف نفسه مرات عدة بأنه اشتراكي، بل إنه كان عضواً في الحزب الشيوعي الجنوب الأفريقي فترة الستينات. كيف ترجم المؤتمر القومي الأفريقي برئاسة نيلسون مانديلا هذا الاقتران عند الحركة النضالية بين الأبارتهايد والرأسمالية؟ في البداية تقدم ببرنامج اقتصادي تم التشاور والاتفاق عليه بين جميع الحركات والجهات الفاعلة في النضال ضد الأبارتهايد. هذا البرنامج اسمه إعادة البناء والتنمية، وقائم على سياسات تستهدف محاربة الفقر ودعم الشرائح الاجتماعية الكبيرة المحرومة. ما إن وصل إلى السلطة، لم يعمل مانديلا ولا حزبه بهذا البرنامج إلا مدة عام ونصف العام، إذ جرى بعد ذلك استبداله ببرنامج آخر نيوليبرالي: تقليل الإنفاق الحكومي، خصخصة مؤسسات الدولة، وإنهاء الاحتكارات المملوكة للدولة، وتحرير السود وربط الأجور بالإنتاجية... إلخ. هذا التغيّر في السياسات لم يكن نتيجة ضغط الوضع الاقتصادي بل نتيجة عدد من التسويات، كإبقاء بيروقراطيي الأبارتهايد في مواقعهم، والنصوص الدستورية التي تؤكد حماية الملكية، والوساطات التي قامت بها السفارة الأميركية، أدت بمانديلا ورفاقه إلى أن يقودوا عملية تحول سياسي، لا تؤدي إلى أكثر من حماية المصالح الاقتصادية القديمة مع إدماجهم كنخبة سياسية سوداء في النادي المغلق للسلطة. هذا كله على حساب الجماهير والحركات المناضلة ضد الأبارتهايد، هذا الوضع نجد انعكاسه في شكل واضح على هيئة أرقام، ففي عام 2004 بعد عقد من تولي مانديلا وحزبه الحكم، انخفض مؤشر التنمية الإنسانية في بلاده إلى 0.67 بعد أن كان 0.73، والفقر يستولي على قرابة نصف عدد السكان. عدم تقديس مانديلا لا يعني بطبيعة الحال شيطنته، لكن الصورة التي يتم ترويجها له في العالم هذه الأيام مخادعة، وتلغي السياق التاريخي المعقد والمتداخل الذي جرت من خلاله الأحداث في جنوب أفريقيا. وفي سياقنا العربي، سياق الربيع العربي والتحولات الإقليمية، فإنه من الضروري ألا يتم الاحتذاء بالتسوية التي قام بها مانديلا، أي ذلك النوع من التسوية الذي يقوم بإدماج حركة المعارضة، لأجل تحييد الثوّار، ومنح المعارضة إمكان الوصول إلى السلطة على حساب الفقراء. * كاتب سعودي. [email protected] @sultaan_1