على عادتهم كل عام حصل اللبنانيون العاملون في قطاع الدولة على إجازة في ذكرى الاستقلال يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر). إنها الذكرى السبعون لاستقلال لبنان. يقال «الذكرى»، ويقال «العيد»، لكن «الذكرى» هي القول الأصح، لأنها تعني تاريخ حدث مضى عليه الزمن... واستقلال لبنان يقع في خانة هذا المعنى. قصيراً جداً كان عمر استقلال لبنان، فهو لم يتجاوز ربيعه الخامس والعشرين، ذلك أنه في عام 1968 أُرغم رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو على القبول بما سمي «اتفاق القاهرة»، وهو الاتفاق الذي أجاز لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تتمركز على خط الحدود الجنوبية في مواجهة إسرائيل. دكان ذلك واجباً وطنياً، لبنانياً وعربياً، لكن لبنان وحده انفرد بهذا الواجب فيما بقيت الجبهات العربية الأخرى حول فلسطينالمحتلة هادئة. وكان على لبنان أن يدفع الثمن الفادح من دمه، ومن أرضه، ومن سيادته، ومن أمنه واستقراره، ولا يزال ملتزماً هذا الواجب. وعلى مدى نحو سبعة عقود، أي منذ بداية الانقلابات العسكرية العربية باسم فلسطين، استطاع لبنان أن ينجو من كارثة السقوط بالبلاغ الرقم واحد الذي يأتي دائماً مع مطلع الفجر، ليأخذ في ما بعد عنوان «فجر الحرية». لم تكن دولة لبنان أكثر مناعة من دول عربية أخرى نالت استقلالها أيضاً على الطريقة اللبنانية، بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تكن الدولة اللبنانية أكثر عدالة والتزاماً بالقوانين والنزاهة، إنما كانت، نسبياً، أكثر ديموقراطية. لأنها كانت، ولا تزال، تجري انتخابات نيابية لا يفوز بها «الحزب الواحد»، ثم إنها كانت، ولا تزال، تجري انتخابات رئاسية يتبدل فيها اسم الرئيس الذي خلق الله مثله ولم يكسر القالب بعده! يتبدل الرئيس اللبناني، وإن لم يتبدل الوضع كثيراً من حسن إلى أحسن، إنما يبقى التبديل نقلة تجدد الأمل بالأفضل. وإذا كانت لكل دولة عربية خصائصها من الثقافة، والمدنية، والسياسة، والتقاليد، فإن لبنان كان يوصف بأنه جامع الشمل العربي، على ما فيه من فضائل، ونقائص. ولقد أسبغ عليه الكتاب والشعراء، والرواة، معجم أوصاف لا يزال يقاوم للاحتفاظ بها. فلبنان هو الجامعة، والمكتبة، والصحيفة، والمطبعة، والمستشفى، والمنبر، والنادي، والساحة، وهو السينما، والملهى، والمقهى، والمطعم، وهو البحر، والسهل، والجبل، والفضاء، والثلج، والنار، والحرية، والفرح، والذوق، والجمال، وهو المتحف، والمحترف، والمصرف، وهو «السوق» بكل معانيها. الخلاصة: إنها الحرية. لكن، عن أي لبنان نتكلم في الذكرى السبعين لاستقلاله؟ الواقع أن تلك الشهادات هي لزمن مضى. فلبنان اليوم محكوم بمجموعة لاءات: لا وفاق، لا حكومة، لا طمأنينة، لا استقرار قبل أن تحل أزمة النظام في سورية وأزمة إيران النووية مع الدول الخمس الكبرى. لقد تضخمت أزمة سورية فصارت أزمة الشرق الأوسط بأكمله، وأزمة العالم الإسلامي بأسره، ومن ضمنها، أزمة العراق، بين سنّة وشيعة، وأزمة تركيا وكردستان، وما بينهما من أكراد وعلويين، ناهيك عن أزمة المسيحيين والأقليات «المحايدة» التي عاشت الدهور آمنة في بلاد الشام، وما بين النيل والفرات، وعلى تخوم الصحارى في الربوع الخالية منذ ما قبل فتح الإسلام. فكيف لهذا الوطن الصغير لبنان الذي ينتظر حلاً لأزمته منذ نحو سبعة عقود، أن ينتظر، بعد، زمناً آخر حتى تحل أزمة العصر بمجملها؟! ليس من المغالاة القول إن لبنان اليوم في مرحلة أشد خطورة من مرحلة تأسيس كيانه في عام 1920 تحت اسم «لبنان الكبير»، ثم صار في عام 1926 دولة باسم «الجمهورية اللبنانية» قبل أن يصير لها دستور في عام 1943. في ذلك الزمن وُلد كيان لبنان من توافق طوائفه على قيام دولة مستقلة أساسها نظام ديموقراطي يراعي «خصوصيات» تلك الطوائف التي لم تختلف على أن الحرية والقانون والمساواة في الحقوق، والواجبات، هي أساس الكيان، فإن اختل ركن من هذه الأركان اختل الكيان بأسره. ولقد اهتز الكيان اللبناني كثيراً، خصوصاً بعد قيام حكم البعث العسكري في سورية، لكنه صمد أمام أخطر الأزمات التي توالت منذ «مذبحة أيلول الأسود» في عام 1970 حين غادرت المنظمات الفلسطينية المسلحة أغوار الأردن لتعبر كلها إلى لبنان، وإلى الجنوب تحديداً، وإلى بعض ضواحي بيروت، حيث كان مقرراً لها أن تقيم لتكون عامل توتر واضطراب حين تدعو الحاجة. ويتذكر الذين رافقوا تلك المرحلة أن النظام السوري العسكري رسم للمنظمات الفلسطينية المنسحبة من الأردن في عام 1970، معبراً محدداً في الأراضي السورية إلى لبنان الذي تحول ساحة جهاد عربية عالمية، ثم ما لبث أن سقط شهيداً وضحية على اسم فلسطين. بعد سبعة عقود من الاستقلال، وبعد أربعة عقود من الاضطرابات والهزات، يكتشف اللبنانيون أن ما حققوه في تلك الفترة القصيرة (بين الأربعينات ومطلع الستينات) من عمران وتقدم، وثقافة، وعلم، وفنون، واقتصاد، وسياحة، وحياة مدنية رحبة في واحات من الحرية والأمان والاستقرار، يستحق أن يكون مشروعهم الجديد للمستقبل الذي يتطلعون إليه، وقد بات رصيدهم عالياً في حساب معركة التحرير والصمود والمواجهة مع العدو الإسرائيلي. تمنيات ومخاوف لكن هذه الحقائق والتمنيات لا تخفي واقعاً لبنانياً مخيفاً. وهو أن اللبنانيين منقسمون بين لبنان، من جهة، والنظام السوري وإيران من جهة ثانية. وهذا الانقسام ينسحب على الدول الأخرى حول سورية وإيران. بين روسيا والصين من جهة، ودول أوروبا من جهة ثانية، وأميركا من جهة ثالثة. تبقى معجزة لبنانية لا يعرف أحد كيف ستتحقق. فأمام لبنان العاجز عن تنفيذ مذكرة توقيف، وعن محاسبة موظف متهم باختلاس، وعن نقل موظف من وظيفة إلى وظيفة أخرى، ثلاثة استحقاقات عليه أن ينجزها خلال بضعة أسابيع: تشكيل حكومة جديدة مضت ثمانية أشهر على استشاراتها، وإقرار قانون جديد للانتخابات النيابية، ثم انتخاب رئيس جمهورية جديد قبل 25 أيار (مايو) المقبل. ومناسبة «25 أيار» هذه، تستدعي ذكرى «25 أيار» سابقة حصلت في عام 1947، أي بعد أربع سنوات من استقلال لبنان، ففي ذلك العام ارتكب أول رئيس استقلالي، هو المغفور له الشيخ بشارة الخوري، أول خطيئة بالتجديد. فقد حل مجلس النواب قبيل موعده ليجري انتخابات تضمن له نتائجها فوز أكثرية تؤيد إعادة انتخابه لولاية ثانية. هكذا، جاء مجلس نيابي اشتهر ب «مجلس 25 أيار (مايو) المزور» ليعيد بالتزوير انتخاب أول رئيس لبناني في بداية عهد الاستقلال. حدث ذلك في لبنان قبل 66 عاماً. واليوم لدى لبنان رئيس جمهورية يعلن تكراراً، مؤكداً قراراً اتخذه: لن أقبل بالتجديد ولا التمديد. وقد سبق للبنان أن واجه مثل هذا الموقف في عام 1964. عندما انتهت ولاية الرئيس اللواء فؤاد شهاب ورفض التجديد، على رغم مطالبة الأكثرية النيابية والإلحاح عليه للقبول. لكن لبنان في ذلك الزمن كان يملك قراره، أما اليوم فقرار لبنان موزع بين عواصم إقليمية ودولية. اليوم يقال إن هذا الوطن الصغير أدى قسطه للعلى دماً، وخراباً، وهجرة، وفرقة، وحزناً، وقد تراجعت مكانته في قائمة الدول المتقدمة. ويقال أيضاً، إن لبنان الذي كان نموذجاً ومثالاً للحرية والعلم، والثقافة، والمدنية، والانفتاح، سقط ضحية مواصفاته، وضحية انقساماته وتوزع ولاءاته بين عرب وعجم. ترى، هل تأخر لبنان سبعين عاماً من عمر استقلاله حتى اكتشف خطأه وخطيئته؟ وهل باستطاعته أن يصحح ذلك الخطأ وأن يمحو تلك الخطيئة خلال خمسة أشهر آتية؟ هناك أمل لا يزال كبيراً حتى اليوم، طالما بقي الشطر الأكبر من اللبنانيين محتفظاً بنعمة الشغف بالحرية، والديموقراطية، مع الأمان والاستقرار. ولعل سبعين سنة من التجارب المريرة ومن «الاتفاقات المستهلكة مع الزمن، ومع المحن التي عاشها لبنان، كافية لتضع اللبنانيين أمام خيار وحيد لخلاصهم، أو على الأقل لتجاوز القطوع الخطير الذي يمرون فيه خلال هذه المرحلة. هناك «اتفاق الطائف» الذي لم يأتِ بالحل السحري لأزمة الكيان اللبناني. لكنه لا يزال إطاراً فضفاضاً للقاء والتفاهم. وأخيراً هناك «إعلان بعبداً» الذي يشهره الرئيس ميشال سليمان ويتمسك به لعبور القطوع. والرجل صادق وحاسم، وهمه أن يسلم أمانة رئاسة الجمهورية إلى من ينتخبه مجلس نواب شرعي... وإلا... فإن الكيان، والنظام الجمهوري الدستوري، في خطر لن تدرأه خطابات الجنون من جانب، ومطولات الرياء من جانب آخر. * كاتب وصحافي لبناني