حرصت «جماعة كتائب عبدالله عزام» لدى تبنيها المسؤولية عن تفجيريْ السفارة الإيرانية في بيروت، على أن تصف الحادثة ب «الغزوة» في امتياح واضح من المعجم الديني التراثي، وكأن ما جرى في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية يضاهي غزوة «بدر» أو «أحد» أو «الخندق». وتحيل مفردة «غزوة»، كما استقرت في المخيال الإسلامي الجمعي، إلى مواجهة مع خصوم خارجين عن ملّة الإسلام، وهو ما ألمح إليه تصريح سراج الدين زريقات أحد الأعضاء البارزين للجماعة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، على حسابه على «تويتر»، إذ أكد أن التفجيرين «عملية استشهادية مزدوجة لبطلين من أبطال أهل السنّة في لبنان». ولدى أنصار القاعدة والجماعات الموصوفة ب «الجهادية» منظومة تشريعية واسعة تؤسس لأفعالها استناداً إلى الوفير والمتناثر من الأسانيد والروايات الفقهية والأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين وبعض التفسيرات المقتطعة من سياقها لآيات قرآنية. بمعنى، أن تلك الجماعات مغطاة شرعياً، وحائزة تفويضاً دينياً بالقتل، سواء استهدف مقاتلين مسلحين في مواجهة عسكرية، أو سكاناً مسالمين، أو أبرياء لا صلة لهم بالخصومات السياسية، ولا ذنب لهم إلا وجودهم في مرمى الموت العبثي. ولعل من شأن هذا «التفويض الديني» المزعوم أن يعقّد آليات مواجهة هذه الجماعات، ويمنع «المُغرّر بهم» من الالتحاق بمشاريع القتل التي تبشر بالجنة، والحور العين. فلدى هؤلاء ترسانة ضخمة من الفتاوى الجاهزة، أو تلك التي تأتي حسب الطلب، تجعل كل حركة أو سكَنَة وفقاً لأحكام الشريعة التي خاطوها بإحكام كي تكون على مقاس أهدافهم. وإذا كانت «جماعة كتائب عبدالله عزام» ومختلف تشكيلات «القاعدة» تضع الشيعة في منزلة «الأعداء»، فإن الأمر لا يختلف عند التيارات الشيعية التي تحرّض على السنّة، وتنهل في ذلك من المعين الدفّاق ذاته للمنظومة الفقهية، ما يجعل الجناحين الأبرز في الإسلام يقتتلان على النص، وفي النص، ويختصمان حول تأويله. إذاً، الحرب قبل أن تكون أدواتها القنابل الفتاكة والمدافع الهتّاكة، والأحزمة الناسفة، كانت تتخندق وراء متاريس التفسير الأيديولوجي للنص الديني الذي يوفر بطبيعته اللغوية «حمّالة الأوجه» الأرضية الصلبة للمعمار التأويلي الذي يصلح، في غالبيته لأن يستجيب المعنى ونقيضه في الآن عينه! ومن شأن هذا الأمر، الذي تفجّر منذ مطالع الإسلام الأولى، وانسحب حتى اللحظة الراهنة، أن يضاعف الحاجة الماسة إلى نظر عقلاني للنص الديني يقوّض حجج الجماعات الدينية المسلحة، ويكشف جنوحها عن مقاصد الشرع المتصلة بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وخيرُ سبيل إلى تحقيق تلك المقاصدية وحقنها بأمصال التطور الحضاري الذي لا ينبغي للإسلام أن يتحرك في معزل عن شروطه، هو التفكير بإنتاج آليات تأويل جديدة مركزها العقل في فتوحاته التي دشنها المعتزلة، وصولاً إلى ما يمكن تسميته «الإسلام العملي» الذي لا يغمر الحياة بتفصيلاتها الجزئية السيّالة، ولا يضيّق على الإنسان، ولا يصنع أصفاداً لمأكله ومشربه وملبسه ومعاشه، ما دامت حركية الإنسان غير منقطعة الصلة بالدائرة الإيمانية. ومن الضروري أن يُنظر إلى دعوات «التجديد الديني» لا بوصفها «هرطقة وتجديفاً» وإنما باعتبارها حاجة ملحّة لوضع النص الديني في السياق التاريخي، والتعامل معه بطريقة جدلية مبدعة تخرجنا من الرؤى المحنّطة التي تريد مقايسة الراهن على لحظة غابرة قبل أكثر من ألف عام، وهو ما يشكل أكبر تهديد للنص الديني، ويعطل طاقة التأويل العقلانية التي يشتمل عليها. إن من شأن الفتاوى التي تستجيب لإصدار أحكام في شرعية استخدام الدردشة في مواقع التواصل الاجتماعي، أن تسحب نظرها وتمده أكثر نحو الاشتباك مع قضايا العصر، لا في جانبها الشكلاني، وإنما في الأسس التي تكشف الروح الحضارية في الدين، وتجفف أوهام أنصار الجماعات الجهادية التي لا تتورع عن وصف مقتل الآمنين وترويعهم بأنها «غزوة»، على رغم أن الغزاة الحقيقيين المناهضين للتطور قابعون تحت العمامات، مهما اختلفت ألوانها! * كاتب وأكاديمي أردني