قبل أيام أفتى الشيخ عبدالرحمن البرّاك بتكفير وقتل من «يستحل الاختلاط فى ميادين العمل والتعليم». وقد خصّ البرّاك «العصرانيين» بفتواه، ويقصد بهم العلمانيين والليبراليين والإصلاحيين، أو بالأحرى غير الملتزمين دينياً. وفي لندن أفتى الشيخ الباكستاني المعروف محمد طاهر القادري بأن «الانتحاريين لن يدخلوا الجنة ولن يشمّوا ريحها» في إشارة إلى التفجيرات التي يقوم بها تنظيم «القاعدة» وكل من على شاكلته ويقع ضحيتها مسلمون أبرياء. الفتوى الأولى لاقت نصيبها الوافي من النقد اللاذع ويبدو أنها استثارت شرائح مختلفة فى الشارع السعودي في شكل غير مسبوق، في حين وصلت أصداؤها بعض البلدان العربية التي استنكر شيوخها وفقهاؤها مضمون الفتوى، ما حدا ببعض علماء الأزهر الى المطالبة بسحبها بسبب ضعف حجتها الدينية فضلاً عن مخاطرها المجتمعية. أما الفتوى الثانية فقد مرّت على الكثيرين مرور الكرام، ربما لأن صاحب الفتوى ليس عربياً، أو لكونها صدرت بعيداً من الديار العربية، على رغم أنها تكاد تكون الفتوى الأكثر وضوحاً وجرأة ضد ثقافة التكفير والتفجير والانتحار. وبعيداً من الأبعاد الدينية والفقهية لكلتا الفتويين، فإنهما تحملان من الدلالات الفكرية والفلسفية ما يكشف الكثير من جوانب الخلل التي تسم العقل العربي والإسلامي في التعاطي مع مثل الكثير من القضايا الشائكة. فمن جهة أولى، بدت فتوى البرّاك وكأنها استعادة لتلك الفتاوى التحريضية التي كانت سبباً في سفك الكثير من دماء وأرواح الأبرياء طيلة العقود الثلاثة الماضية، والتي كانت بمثابة «خزان» نهل منه اعضاء الجماعات المتطرفة أفكارهم وأحكامهم من أجل تبرير عملياتهم وهجماتهم ضد إخوانهم المسلمين كما حدث في مصر والجزائر والسعودية والمغرب واليمن. وقد ظنّ البعض، ربما خطأ، أن مثل هذه الرؤية الأحادية والاختزالية لقضايا جدلية معاصرة كالاختلاط، قد اندثرت، ليس فقط بفعل التطور الملحوظ في أدبيات فقه الواقع ونظرية المقاصد وتغليب المصالح، وإنما أيضاً بفعل التحولات الاجتماعية والثقافية المتلاحقة التي تمر بها المجتمعات العربية والإسلامية، وتفرض حتمية البحث عن رؤى أكثر مرونة ورحابة للتعاطي مع القضايا الحياتية التي تواجه المواطن العربي البسيط. في المقابل كانت فتوى القادري بمثابة صبّ لمزيد من الماء البارد على ثقافة «القتل المريح» التي تعتنقها تنظيمات السلفية الجهادية. وهي تضاف إلى سلسلة المراجعات التي قامت بها جماعات وقيادات جهادية سابقة كما حدث في مصر والجزائر والمغرب وأخيراً ليبيا وموريتانيا. ولعل الجديد الذي أضافته فتوى القادري، ليس فقط أنها حرّمت سفك دماء المسلمين وقتلهم تحت أي ذريعة، فضلاً عن أنها وضعت أعضاء وقيادات تنظيم «القاعدة» وغيرهم ضمن طائفة «الخوارج الجدد» ما يعني «إخراجهم من الملّة»، على حد قول القادري (جريدة «الشرق الأوسط»/ 5 آذار الجاري)، وإنما أيضاً في لغة صاحبها وجرأته على توجيه نقد غير مسبوق لأتباع الجماعات المتشددة، فضلاً عن كونه يأتي من خارج منظومة الحركات الجهادية، وبالتالي يصعب الطعن فى مبررات إصداره للفتوى. من جهة ثانية فإن فتوى البرّاك، على رغم خروجها عن المألوف، بما قد يدخلها ضمن سلسلة الفتاوى «الغريبة» التي ملأت الساحة العربية خلال الأعوام الماضية، مثل فتوى «إرضاع الكبير» وتحريم «الفيس بوك»... إلخ، إلا أنها تعكس تياراً دينياً وفقهياً لا يزال موجوداً وله جمهوره ومريدوه في السعودية وخارجها، ما يعني ضرورة أخذها على محمل الجدّ والتعاطي مع ارتداداتها السياسية والحركية. في المقابل تبدو فتوى القادري امتداداً لتيار متصاعد ضمن أروقة الفقه الإسلامي، يسعى لتفكيك منظومة العنف الديني وفض العديد من إشكاليات العلاقة الملتبسة بين مفاهيم المقاومة والجهاد والإرهاب التي أربكت الكثيرين وتسببت في الإساءة للإسلام والمسلمين طيلة العقد الماضي. وهو تيار بدأه على استحياء قبل نحو عقدين من الزمن الفقيه السوري الدكتور سعيد رمضان البوطي فى كتابه «الجهاد في الإسلام... كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟»، وقد اشتد عود هذا التيار بعد أن أصدر العلامة يوسف القرضاوي مجلده الأخير «فقه الجهاد» قبل عام ونيف. ومن المدهش أن كلا التيارين ينهل من نفس المصادر والأصول الدينية والتراثية لإثبات وجهة نظره وسلامة حججه. فالبرّاك استند في فتواه الى آراء وأقوال فقهاء قدامى ومعاصرين حول مسألة الاختلاط وامتزاج الرجال بالنساء، وإن كانت جميعها اجتهادات بشرية لم يرد فيها نص قطعي الثبوت والدلالة. في حين استند القادري، ومن قبله البوطي والقرضاوي، الى كتابات فقهاء أصوليين مثل ابن تيمية وابن حجر والماوردي والألباني وابن باز، من أجل تبيين وجهة نظرهم حول مسائل الجهاد وشروطه وضوابطه، ومقصدهم جميعاً كبح جماح العنف السياسي القائم على رؤية دينية وعقدية ظنيّة. ومن جهة ثالثة، فإن التعاطي الإعلامي مع كلتا الفتويين قد كشف جانباً من الخلل الفكري والمنهجي الذي أصاب مجتمعاتنا ونخبنا على حد سواء. ففتوى البرّاك، والتي لم تزد عن بضعة أسطر، جذبت الانتباه العربي إليها إعلامياً وشعبياً. وهو أمر يمكن فهمه بسبب المضمون التحريضي للفتوى التي احتلت مساحة معتبرة من التغطية الإعلامية صحافياً وفضائياً. وكان الأبرز في هذا السياق هو الردّ القوي من الإعلاميين والمثقفين السعوديين على الفتوى، ولعلها إحدى المرات القليلة التي تتوافق فيها أصوات الإصلاحيين (الليبراليين والإسلاميين) في مواجهة مثل هذه الأفكار والفتاوى، التي يبدو أنها قد قطعت «شعرة معاوية» بين التيار السلفي المتشدد ونظيره الإصلاحي في السعودية. في حين لم تحظَ فتوى القادري، والتي جاءت فى حوالى 600 صفحة، بنفس القدر من الاهتمام الإعلامي والفكري، وذلك باستثناء التغطية الصحافية المميّزة في جريدة «الشرق الأوسط» للفتوى وصاحبها. وإذا كان هذا التفاوت يعد مؤشراً على قدرة الفتاوى «الغريبة» على جذب الاهتمام والبقاء داخل دائرة الضوء، إلا أنه يعكس أيضاً مدى الصعوبات التي يواجهها التيار الإسلامي التجديدي في حشد وتعبئة الجمهور العربي والمسلم خلف أطروحاته وأفكاره. الإطار الأوسع لهذه الدلالات الثلاث هو تلك العلاقة السحرية بين النصّ والواقع، أو بالأحرى بين التراث والحداثة، والتي يبدو أنها ستظل تمثل معضلة «كبرى» للعقل العربي والمسلم. فالبرّاك أصدر فتواه رداً على استفسار من أحد تلاميذه، وذلك من دون النظر الى ما قد تحدثه الفتوى من ردود أفعال سواء لدى صاحب السؤال أو لدى الطرف المقصود بالفتوى. ولا يمكن فصل فتوى البرّاك عن طبيعة السياق الاجتماعي والثفافي في السعودية الذي يسير بتدرج محسوب نحو الانفتاح والتحديث، ما يفرض قدراً من الاختلاف، وأحياناً، الصراع بين تياري التقليد والتنوير. ولو استسلم التحديثيون (أو «العصرانيون» بحسب البرّاك) لمثل هذه الفتاوى، فلربما تظهر فتاوى أخرى تطالب بمنع الفتيات من حقهن في التعليم والذهاب الى المدارس والجامعات. في مواجهة هذه الفتوى، بدا المجتمع السعودي وكأنه يسعى باتجاه تحقيق توازنه الذاتي من دون تدخل رسمي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، وهو ما أعطى «الديالكتيك» الفكري في السعودية طابعاً مميزاً. وقد كان طريفاً أنه في الوقت الذي ظهرت فيه فتوى البرّاك، تم منح الروائي السعودي عبده خال جائزة «البوكر» العربية لهذا العام عن روايته الجديدة «ترمي بشرر»، ما يعني أن المجتمع السعودي قد دخل مرحلة «التدافع» الثقافي في شكل حقيقي. في المقابل بدت فتوى القادري كما لو كانت أشبه بقنبلة يدوية تم إلقاؤها وسط مصنّعي الأحزمة الناسفة. فصاحب الفتوى جاء من قلب بؤرة دينية ملتهبة هي باكستان، وهو لم يبالِ كثيراً بما قد يتعرض له من مخاطر جسدية ومادية من قبل المتشددين في حركة «طالبان» وغيرهم من المنتمين الى الحركات الأصولية في باكستان، وذلك على نحو ما جرى مع غيره من الشيوخ المخالفين لهذه الحركات أيديولوجياً ومنهجياً. صحيح أن القادري أصدر فتواه في لندن وعلى بعد آلاف الأميال من دياره، إلا أن فتواه قد شملت جميع المنتمين للتيارات الراديكالية شرقاً وغرباً. فضلاً عما يحظى به الشيخ من مؤيدين ومريدين يزدادون باضطراد من خلال مؤسسته «منهاج القرآن» التي أسسها قبل ثلاثة عقود وتمتد فروعها في حوالى تسعين دولة. ولعله الأول بين فقهاء وشيوخ باكستان الذي يعلن موقفه من المتطرفين بهذا الوضوح والجرأة، وهو الذي وصفهم في فتواه بالمرتدين بسبب عملياتهم الانتحارية ضد الأبرياء. ولربما استفاد في ذلك من خبرته السياسية باعتباره مؤسساً وزعيماً لحزب «عوامي تحريك باكستان» واقترابه من السلطة إبان حكم الرئيس السابق برويز مشرف واطلاعه على ملف العلاقة بين الدولة الباكستانية والمتشددين. وتزداد المفارقة وضوحاً إذا ما تم وضع الشيخ البرّاك، ومن على شاكلته، ضمن تيار فقهي عربي يضيّق منهجية التفسير والتأويل والقياس في تعاطيه مع النصوص وعلاقتها بالواقع، ما قد يعطي غطاء دينياً للمتشددين من أجل تصفية المخالفين لهم جسدياً. في حين يبدو الشيخ القادري، وهو القادم من وسط أجواء التشدد والانغلاق والنصوصيّة الدينية، كما لو كان تعبيراً عن مدرسة فقهية إسلامية «آسيوية» تعتمد فقه المقاصد والمصالح والتيسير من أجل إفادة الإسلام وحقن دماء المسلمين. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام – بريطانيا. [email protected]