كانت ذكرى عاشوراء في العراق بمثابة الشرارة التي أوقدت نار التفجيرات الانتحارية والعبوات الناسفة. ومع أن حكومة نوري المالكي نشرت أكثر من 35 ألف جندي للمحافظة على سلامة المشاركين... إلا أن ذلك الحرص لم يمنع «القاعدة» من تفجير المواكب، داخل بغداد وخارجها، الأمر الذي فرض الحداد لمدة ثلاثة أيام. وعلى وقع الأحداث الدامية في العراق، كان الشيعة في لبنان ينتظرون عملاً استفزازياً لم يتبادر الى الأذهان أن يكون في حجم التفجيرَيْن الانتحاريين اللذين استهدفا السفارة الإيرانية في بيروت. وكان أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله قد أطل مباشرة على الحشود المجتمعة لإحياء ذكرى عاشوراء في الضاحية الجنوبية، ليؤكد لها أن مقاتلي الحزب سيبقون في سورية إلى حين انتفاء الأسباب. وفي تعليقه على الأسباب التي قادت إلى التفجير، قال رئيس الحكومة اللبنانية السابق، فؤاد السنيورة، «إن استخدام لبنان منصة لخدمة أغراض إقليمية ودولية، سيؤدي تلقائياً الى هذه النتائج المأسوية». ومثل هذا التلميح المبطن الذي ربط فيه السنيورة دور «حزب الله» داخل سورية بما يحصده لبنان من كوارث إنسانية وإخفاقات سياسية، كان أحد العناوين البارزة في صحف هذا الأسبوع. ومعنى هذا أن الاستنفار العام، الذي أعلنته قيادة «حزب الله» في لبنان، ربما يؤخر إرسال ثلاثة آلاف مقاتل أشارت القوات السورية النظامية الى انتظارهم في معركة القلمون. وهي معركة بالغة الأهمية لأنها تجمع كل أطياف المعارضة السورية، إضافة إلى تنظيمات جهادية مثل «القاعدة» ومشتقاتها. وذكرت الصحف أن منطقة عرسال والزبداني والقلمون تحولت في الشهرين الأخيرين الى موقع مركزي لنقل السلاح الى الذين يحاصرون دمشق. وتفيد معلومات الجبهة أن المسلحين الذين قاتلوا في القصير انسحبوا بهدف الاشتراك في معركة القلمون. وقد أعربت قيادة الجيش اللبناني عن اهتمامها البالغ بالنتائج الإنسانية التي سيفرزها القتال في منطقة راشيا، خصوصاً أن المواجهات المتوقعة في القلمون والنبك والزبداني ستلقي بالنازحين في بريتال وعرسال وجوارهما. وبحسب التقرير الأخير الصادر عن مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين، فإن عدد النازحين السوريين الذي يتلقون المساعدة من المفوضية بلغ أكثر من 820 ألف شخص. وهذا رقم كبير بالنسبة للبنان الذي يُضطر أبناؤه الى الهجرة بحثاً عن لقمة العيش. في دفاعه عن موقف «حزب الله»، اعتبر السيد حسن نصرالله أن ذهاب الحزب الى سورية كان أكثر من ضرورة وواجب. وقال في تفسير ذلك: «لو لم نذهب الى سورية لتحوّل لبنان عراقاً ثانياً، بدليل أنه استشهد في العراق الشهر الماضي 900 شخص، وسقط المئات من الجرحى نتيجة 300 سيارة مفخخة أو عملية انتحارية». وهذا لا يعني أن محاولات مماثلة لم تتكرر في منطقة الضاحية الجنوبية، ولكن «القاعدة» هذا الأسبوع ركزت نشاطها على استهداف السفارة الإيرانية. وهو استهداف مدروس أريدَ من ورائه إظهار العلاقة الوثيقة بين التنظيم السياسي-العسكري في لبنان، وبين الدولة الخارجية الحاضنة والراعية منذ سنة 1982. وتشير الكتب التي سجلت مسيرة الحزب، أن طهران أمنت له الدعم العسكري والمالي، وأن «الحرس الثوري» أقام قاعدة تدريب في منطقة بعلبك ظلت ناشطة من سنة 1982 حتى سنة 1985. ومع المدربين العسكريين، أرسلت ايران بعثات ثقافية تولت عملية تطوير الأسس الفكرية والعقائدية الممثلة بمبدأ «ولاية الفقيه». وقد صدر عن الحزب بيان في 16 شباط (فبراير) 1985، يؤكد «التزام الحزب بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه». وعندما سئل السيد حسن نصرالله عن تحقيق مشروع الدولة الإسلامية -كما في إيران- قال إن هذه الدولة حاضرة على مستوى الفكر السياسي ولكن خصوصيات المجتمع اللبناني لا تساعد على تحقيقها. بالعودة الى حادث تفجير السفارة الإيرانية في بيروت، اتهم السفير غضنفر ركن أبادي إسرائيل بالوقوف وراء هذا العمل الإرهابي. علماً أن الشيخ سراج الدين زريقات، أحد عناصر تنظيم كتائب عبدالله عزام، أعلن عن مسؤولية «القاعدة» في تخطيط وتنفيذ العملية الانتحارية. وكانت الاستخبارات اللبنانية قد أوقفت زريقات بتهمة القيام بنشاطات مشبوهة. وبعد تدخل أحد كبار رجال الدين السنّة، أخليَ سبيله، ثم اختفى ليظهر من جديد. وكما تعاظمت حملة الانتقاد ضد تدخل «حزب الله» في سورية خلال الربيع الماضي، هكذا اشتدت الاتهامات المعارضة لتدخل يسيء إلى لبنان. وكان زعيم المنظمة السابق، الشيخ صبحي الطفيلي، قد حذر من غرق الحزب في المستنقع السوري، ومن تداعيات تورطه في الحرب الأهلية السورية. ولكن هذه الانتقادات لم تردع الحزب الذي يعتمد في قوته العسكرية على الصواريخ التي تزوّده بها دمشق، وعلى الأسلحة والنفوذ السياسي وكل ما تخصّه به الجارة الكبرى من مساندة وتعاون. ويتخوّف المسؤولون اللبنانيون من نقل ساحة القتال من سورية إلى لبنان بحيث تتوافر ل «القاعدة» فرص الانشغال ببرنامج عمل طويل. ولكن المراقبين يشكون في حدوث مثل هذا الاحتمال بسبب الفوضى العارمة التي تؤمن للأحزاب المحلية والقوى الخارجية مرتعاً خصباً يصعب استبداله. مثال ذلك أن مسلحي «جبهة النصرة» -وهي الكبرى بين المنظمات الجهادية التابعة ل «القاعدة» في سورية- نفذت هجوماً في محافظة الرقة، ونجحت في إبعاد الموالين لبشار الأسد. وهكذا سيطرت على منطقة تُعتَبر حساسة للغاية كونها تقع على أكبر سدّ لنهر الفرات. ومن أجل كسب الرأي العام السوري، سرَّبت «القاعدة» معلومات لوكالات الأنباء تقول فيها إنها هي التي تؤمن الكهرباء والماء للسكان، وإنها هي التي تحرس مستودعات القمح لإمداد المخابز بالطحين. وأكثر من هذا، فقد طلبت من أجهزة الشرطة المحلية العودة إلى العمل. وفي مدة لا تتجاوز الستة أشهر استطاعت هذه المنظمة الإرهابية كسب تعاطف السكان الذين تخلت عنهم الدولة. والمعروف أن هذه المنظمة جاءت من جبال أفغانستان البعيدة ونجحت في السيطرة على أراضٍ واسعة بينها مناطق آهلة... ومناطق حيوية في العراق وسورية والصحراء الواسعة التي تطل على مالي. وفي ذروة الحرب العراقية، انتقل أنصار «القاعدة» إلى سورية. وكانت دولة الأسد، بالنسبة إليهم مجرد محطة مرور، ومركز تطوع للراغبين في قتال الأميركيين والشيعة والأكراد في العراق. ولكن الحرب السورية بدّلت مسار الناشطين المتخصصين في أعمال العصابات والتدمير. وعلى شاشات «الإنترنت» تظهر صور المقاتلين الذين انضموا إلى «القاعدة» وانتقلوا الى سورية عبر الحدود المفتوحة من تركيا، فالشاب «سام» جاء من إيرلندا. وإبراهيم المزوجي وصل من بريطانيا. ورفيقه نيومان ديمولي سافر من كوسوفو. وتظهر الى جانب هؤلاء صور عبدالمالك من الدانمارك وأبو كمال من السويد ورفائيل غاندورن من فرنسا وإريك هارون من الولاياتالمتحدة. كل هذه الصور المنشورة على «الإنترنت» تقلق واشنطن وموسكو بسبب انعدام تأثيرهما على هذه الحركة العابرة للحدود. أي الحركة التي انطلقت من أفغانستان وأصبحت وباء خفياً تهدد جراثيمه شعوب كل العالم. الجهود الدولية تسعى إلى إنهاء الحرب في سورية، وجمع الأطراف في مؤتمر مشترك، وصولاً إلى تسوية سياسية، في حين تنقسم البلاد عملياً إلى ثلاث دول مختلفة، فحدود العراق يسيطر عليها مقاتلو «جبهة النصرة» و»القاعدة.» وفي الشمال الغربي من سورية يسيطر الأكراد. كما تشكل منطقة الحدود مع تركيا والعراق الشمالي-الشرقي منطقة كردية بامتياز. وبعد مرور سنة، أعلن الأكراد أن في نيّتهم اتخاذ هذه المنطقة معسكراً مستقلاً يتمتع بحكم ذاتي. على الحدود الأردنية، تنشط منظمات تابعة لقيادة «الجيش السوري الحر». ويُستَدَل من هذا التوزيع أن بشار الأسد أصبح رئيس دولة ضيّقة جغرافياً، تمتد من دمشق عبر الطريق المؤدي إلى حمص وإدلب، وحتى اللاذقية في الشمال، مركز الطائفة العلوية. وهناك حرص شديد من قِبَل النظام على الاحتفاظ بمدن الشاطئ، لأنها تمثل الحدود الوحيدة للدولة التي يسيطر عليها الأسد. في الربيع الماضي، شارك مقاتلو «حزب الله» في معركة «القصير». وأدّت مشاركتهم الى فتح محور دمشق-بيروت، الطريق المركزي للقوات النظامية إلى لبنان. قبل شهرين، بدأت معركة استراتيجية أخرى فوق سلسلة جبال القلمون التي تُعتَبر امتداداً لسلسلة جبل الشيخ. وقد شكلت في الماضي معابر سرية لمهربي الأسلحة والحشيشة. وهي حالياً تشكل المعبر الواقي للمقاتلين المتطوعين لنصرة نظام الأسد. وتدّعي اسرائيل أن هذا المعبر يُستَخدَم لنقل الصواريخ المُرسَلة من ايران الى مخازن «حزب الله» في بعلبك. وقد فشلت «جبهة النصرة» في السيطرة على هذه المعابر الحيوية على أمل شلّ القوات السورية النظامية. واليوم يحاول الثوار في سورية السيطرة على الطريق المؤدية الى القلمون عبر دمشق، وذلك بهدف إرباك الجيش النظامي. ومع بدء معركة الحسم، أعلن السيد حسن نصرالله أن قواته لن تنسحب من سورية. وفي الاحتفال بيوم عاشوراء، خاطب الجماهير بالقول: «هدف وجودنا في سورية واضح. نحن ندافع عن أمن لبنان... عن الانتفاضة الفلسطينية...». وقد يكون هذا التصور صحيحاً، لأن نفوذ «حزب الله» في لبنان جعل انتصاراته في سورية قوة إضافية مجيرة لنفوذ بشار الأسد. وهذا يعني أن الارتباط الوثيق بين إيران وسورية الأسد و»حزب الله» خلق معادلة توازن لا يُسقطها سوى نجاح المحادثات في جنيف! * كاتب وصحافي لبناني