احتفى العالم الألباني بأليس مونرو عند فوزها بنوبل الآداب أخيراً لأنها كانت اسماً معروفاً له. وذلك لسبب بسيط ألا وهو أن مونرو كانت ومن ضمن اهتمامها بعالم النساء الذي يسيطر على أدبها قد اختارت موضوعاً ألبانياً مثيراً لإحدى قصصها أو رواياتها القصيرة وهي «العذراء الالبانية»، التي ترجمت الى الالبانية ونشرت في تيرانا بغلاف جميل (دار الكتاب 2005). ومن المعروف ان بعض قصص مونرو يتجاوز طوله خمسين صفحة وهي تقترب من الروايات، حتى أن بعض النقاد يطلق عليها «روايات قصيرة»، ومن تلك «العذراء الالبانية» التي نشرتها أصلاً في مجلة «نيويوركر» في 1994 ثم ضمن مجموعتها القصصية «أسرار مكشوفة» (1994) وأعادت نشرها ضمن مجموعة مختارة من قصصها «قصص مختارة» (1996) التي اشتهرت أكثر. جاءت هذه القصة الطويلة أو الرواية القصيرة نتيجة لصدفة دفعت مونرو الكندية الى الاهتمام بعالم غرائبي بالنسبة اليها. فقد روت لها بالصدفة موظفة مكتبة في مدينتها انها قرأت قصة مثيرة عن تعرض قطّاع طرق في شمال ألبانيا لسائحة كندية كانت تجول هناك في 1920، وقطاع الطرق هؤلاء اكتفوا بسلبها من دون أن يتعرضوا لها على أساس أن «العرض مقدس عند الألبان». دفع هذا مونرو الى القراءة أكثر عن مكانة المرأة في المجتمع الالباني واستعانت على ذلك بمؤلفات الكاتبة البريطانية المعروفة اديث دورَم التي أقامت بين الالبان وكتبت عن عاداتهم وتقاليدهم ومكانة المرأة لديهم، وبخاصة الموضوع الذي انبهرت به مونرو وكتبت عنه في «العذراء الالبانية». ففي المجتمع الالباني البطريركي برزت ظاهرة «المسترجلات» أو «العذراوات» التي تتعلق بحالات ترفض فيها الفتيات لسبب او لآخر الزواج وتعلن عن ذلك في احتفالية معيّنة، اذ تقوم منذ تلك اللحظة بلبس ملابس الرجال وحمل السلاح وتنزوي بذلك عن مخالطة النساء لتخالط الرجال فقط وتشرب معهم القهوة والدخان وتشارك في أحاديث الرجال التي كانت تدور في العادة حول المشاكل والنزاعات والاستعداد للقتال. هذا الموضوع الذي كتبت عنه بكل تفاصيله دورَم في كتابها «ألبانيا الجبلية» الصادر في 1909 خلب لبّ مونرو المعنية بعالم النساء حيث بدا لها (وهو كذلك) غرائبياً بالنسبة الى العالم الانغلوساكسوني الذي تكتب له. ومن هنا ولدت فكرة قصتها الطويلة أو روايتها القصيرة «العذراء الالبانية». في «العذراء الالبانية» تستعيد مونرو ما سمعته عن تعرض قطّاع الطرق في شمال ألبانيا للسائحة الكندية في 1920، التي استغربت «احترام» قطّاع الطرق لها باعتبارها امرأة، وتضيف له ما قرأته عن معايشة الانثروبولوجية اديث دورَم ل «المسترجلات» أو «العذراوات» الألبانيات في مطلع القرن العشرين لتحبك قصتها الطويلة «العذراء الالبانية» التي بدت غرائبية مع أنها تقوم على واقع لا يزال قائماً في بعض مناطق البانيا حتى الآن. في «العذراء الالبانية»، تظهر السائحة الكندية باسم لوتارا لتروي عما تعرضت له مع بعض الخيال القصصي أو الروائي. فخلال قطع الطريق قام قطّاع الطرق بإطلاق النار على مرافقها ورافق هذا وقوع لوتارا على حافة حجر حاد مما جعلها تتعرض لجرح يتوجب علاجه. وهكذا يقرر قطّاع الطرق حملها على حصان وأخذها الى البيت الالباني التقليدي (الكولا) الذي يمثل العالم البطريركي الالباني: عالم الرجال المنفصل تماماً عن عالم النساء. في «الكولا» تتعرف لوتارا إلى الفقر المدقع وإلى العجوز الالبانية تيما التي تداوي جرحها بشمع العسل وزيت الزيتون وإلى القس الالباني الفرانسيسكاني الذي يصبح صلة الوصل بينها وبين هذا العالم الغرائبي الذي وجدت نفسها فيه، يحدّثها عن العادات والتقاليد الالبانية في ما يتعلق بالرجال والنساء. هناك تكتشف لوتارا بؤس النسوة الالبانيات، هن من يعملن في البيت وخارجه، بينما يكتفي الرجال بالجلوس لشرب القهوة والدخان والحديث عن السلاح والقتال. وفي مثل هذا الجو تعرّفت لوتارا إلى «المسترجلات»، حيث ان التحول هنا من امرأة الى رجل ليس بيولوجياً وإنما هو عرفي أو شعائري يتم من خلال احتفالية معينة، وتصف بالتفصيل الاحتفالية التي تقرّ فيها الفتاة الالبانية امام 12 شاهداً، اضافة الى قسيس انها لن تتزوج وتريد أن تنضم الى عالم الرجال بلبسها ملابسهم والانفصال تماماً عن مخالطة النساء. ومع أن هذه القصة حين نشرت ضمن مجموعة «أسرار مكشوفة» في 1994 كانت تبدو غرائبية بالنسبة الى الغرب، وبخاصة بعدما نشرت في «قصص مختارة» في 1996 التي اشتهرت أكثر، إلا أن الغرائبية كانت تكمن في اكتشاف الغرب كون هذه الظاهرة لا تزال موجودة في ألبانيا حتى نشر «العذراء الالبانية». ففي 1990 كانت ألبانيا قد خرجت من عزلتها الطويلة التي غابت فيها عن العالم خلال 1945-1990، وأصبحت ساحة جاذبة لصحافة الغرب الذي اكتشف آنذاك مثل هذا «الجزء المعتم» من العالم الموجود جغرافياً في قلب أوروبا. وفي هذا السياق، كان من الطبيعي أن يستحوذ موضوع «المسترجلات» أو «العذراوات» على اهتمام الصحافة ثم بعض الباحثين وصولاً الى كتّاب السيناريو. ففي 2012 نشر بعض المجلات العالمية مجموعة صور للصحافية جيل بترس تحت عنوان «العذراوات الالبانيات اللواتي أقسمن اليمين» بعد جولة لها في بعض مناطق ألبانيا وكوسوفو، بينما منح مهرجان برلين السينمائي 2013 سيناريو فيلم «المسترجلة – العذراء الألبانية» جائزة تشجيعية لكونه يكشف عن استمرار حالة غرائبية في أوروبا حتى مطلع القرن الحادي والعشرين.