لأن الكاتبة مشغولة بمسألة موتها، دائما ما تكون قصص الكاتبة الكندية أليس مونرو صعبة ومعقدة. في مجموعتها القصصية «الحياة الغالية» تقول الكاتبة: «هذه الأشياء التي أكتبها عن حياتي هي الأولى والأخيرة والأصدق». ثلاثون عاما مضت على الحديث الذي دار بيني وبين أحد الكنديين حول «أليس مونرو» ولسبب ما، لم أستطع تفسيره حينها، كان الحديث به نوع من الملل، لم يمر وقت طويل حتى اكتشفت أن السبب وراء هذا الجفاء هو مقت الرجل ل «مونرو» بسبب كتابتها عن إقليم «أونتاريو» ونسائه والتي احتلت جزءا كبيرا من أعمالها. هكذا كان القراء منذ ثلاثين عاما يعتقدون أن «مونرو» كانت تكتب فقط عن المرأة في «أونتاريو» هذا الإقليم الذي لا يعرف عنه الكثيرون، غير كونه ذلك السهل المنبسط بمزارعيه ومدنه الصغيرة، لكن الحقيقة أن «أونتاريو» مجموعة من المعتقدات الفكرية في حد ذاته، وطبيعي أن تكون هذه الأيدولوجيات التي يعتنقها البعض محل خلاف، أو لا تزال في طور التقييم من قبل البعض الآخر. ولكن، هل هذا فحسب جل ما يمثله إقليم «أونتاريو»؟ أم أنه لا يزال يحتفظ في جعبته بالكثير ليشي بما كانت عليه نساؤه قبل ثلاثين عاما؟ لا أرى سببا لبغض أعمال مونرو عن «أونتاريو»، كما لا أرى أن هناك أي انتهاك لخصوصية أناسها الطيبين رغم أنه أصبح جليا أن مونرو قد استخدمتهم للتعبير عن الحالة الإنسانية للمكان، ولا أحد ينكر عليها ذلك، فهذه هي طبيعة عملها الذي لا جدال في روعته، فهذه الشخصيات المجردة الغارقة في الواقعية لم تكن تستطع التعبير عنها دون «أونتاريو» بكل ما يحويه من تناقضات. قبل أن يفكر أحد في مقاضاتها يجب أن نعرف أن امرأة «تورنتو» هي نفسها «مونرو»، لذلك فالقول بأن الكتابة الجيدة هي عمل قاس في حد ذاته صحيح إلى حد بعيد، فحتى الكاتبة نفسها ربما لا تدرك أن ما تكتبه هو مزيج من الأنانية والسخاء في آن واحد، وهذا المزيج هو الذي يقطع بالكاتب المسافات ليوصله إلى النقطة الحميمة بينه وبين قرائه، وهذه القسوة هي التي يولد من رحمها عطاء الكاتب اللا محدود. على الرغم من أن «مونرو» عاشت حياتها في مدن عديدة مختلفة، إلا أنها في السنوات الأخيرة عادت إلى مكان طفولتها مدينة «تورنتو» لتسكن على مسافة غير بعيدة من مدرستها القديمة، ولتعيش مثل شخصيات قصصها، فالعالم بأكمله بالنسبة لها هو تلك المدينة الصغيرة المستقرة، حيث من الممكن جدا أن نعرف أشياء خاصة عن الآخرين. ففي أحد اللقاءات الصحافية تتحدث «مونرو» عن طائرة رابضة بأحد الحقول المحلية، فتقول: «مالك هذا الحقل كان يهوى اللعب بالطائرات وهو صغير، وبالفعل كان يملك واحدة، حيث لم يكن يرغب في أن يصبح مزارعا، وتمسك بهوايته حتى أصبح يدرس الطيران وهو لا يزال حيا، ويتمتع بصحة جيدة كما لا يزال من أكثر الرجال الذين قابلتهم في حياتي وسامة. تقاعد وهو في الخامسة والسبعين وفي غضون ثلاثة أشهر من تقاعده كان قد ذهب في رحلة ليعود منها بمرض غريب شبيه بذلك الذي تصاب به من لسعات «الخفافيش في الكهوف»... هذا الوصف في حد ذاته قصة قصيرة حيث نرى كيف اختزنت ذاكرتها هذه الحكاية لتظل حبيسة عقلها حتى يحين الوقت لتحيك منها قصة قصيرة، فهي عندما تكتب تتمهل في انتظار شيء لا تعرفه ربما عاطفة أو لمحة، أو نقطة تحول قد تحدث لشخصيتها الرئيسية التي يمكن أن تكون هذا الرجل «مدرب طائرات الحقول». في مثل هذه البيئة، يستطيع كل فرد أن يتلقى إجابة عن سؤاله: «ماذا حدث في هذا المنزل؟ وبالتالي ليس من الصعب أن تحصل (مونرو) في طفولتها على مخزون هائل من الذكريات عن المكان الذي تم تجديده بعودتها مرة أخرى، والذي يتألف من خيارات الناس وأقدارهم وشكل الأثاث وميزانيات البيوت، والعلاقات الإنسانية والمشاعر البشرية المعقدة... يظهر كل هذا في أعمالها بواقعية شديدة وجديدة، فالوقت كفيل بأن يكشف لنا ما قد تم إخفاؤه والأمور تتغير دوما، فنحن نظل على صلة بالأحداث لأن الناس لا يزالون هناك، لا أحد يختفي، أو على الأقل لا أحد يستطيع الابتعاد لوقت طويل فحتى الأشخاص الذين تعتقد أنهم اختفوا يعاودون الظهور مرة أخرى. هذا النوع من الحياة هو ما نحا بمونرو إلى كتابة القصص وليس الرواية، فهي تعول في أعمالها على ماهية الأشياء وكيفية حدوثها، ففي وقت ما يفسر الإنسان الأحداث المحيطة به بطريقة خاطئة فيفتقد للبصيرة في معالجة الأمور، فالعمر، كما تقول، يغير نظرتك لأحداث الماضي والحاضر معا، لذلك ليس من الصعب أن تجد أن طريقة تفكير الشخصيات قد تختلف فجأة عما اعتادت عليه، لكنك مع ذلك لا تستطيع أن تسميه فخا، فها هي «بيلي» في إحدى قصصها تقول: «أشعر بحرية كبيرة وأنا داخل القطار» وعندما ذكرتها رائحة التخدير في المستشفى بقصة موت أبيها تقول: «لم أقل إنني لم أعرف الحزن حينها، فقط استطعت القفز خارج دائرته، وربما يكون ما فعلته هو خطأ، لكن هذه الأخطاء هي أحد أقدار الجنس البشري». تخطي «مونرو» الثمانين من العمر جعل الفترة الزمنية في قصصها طويلة، وبالتالي فالمقدرات تتشابك لتتناسب مع طول وثراء تجاربها وذكرياتها، بعض القصص في مجموعتها «الحياة الغالية» تبدأ بوقت التحول الثقافي والاقتصادي الذي شهدته البلاد بعد الحرب العالمية الثانية لتنتهي بالوقت الحالي. الماضي عند «مونرو» دائما ما يعاود الظهور، فإحدى الشخصيات تسير في الطريق وتتأمل عادات الناس: «فمنذ برهة أنهت ربات البيوت غسيل الأطباق وتنظيف أرضية المطبخ للمرة الأخيرة لهذا اليوم، والرجال للتو قد أنهوا ري حدائقهم، وها هي خراطيم المياه قد أعيد لفّها مجددا». فالحاضر عادة أقل إشراقا عند «مونرو»، وكان بوسعها وصف اللحظة الراهنة، حيث كل فرد داخل منزله مع أسرته، لكنها لم تفعل وفضلت الحديث عن اللحظات الماضية. ربما نستطيع القول إنها مسحورة بالوقت، فها هي «بيلي» تتحدث عن حمامها الدافئ في مراهقتها، حيث كانت أحواض الاستحمام بدون أنابيب تصريف، فيتم وضع دلو ليتسرب إليه الماء. أما في قصة (الوصول إلى اليابان) فتصف «جريتا» وضع المرأة في بداية الستينيات عندما كانت توصم بأنها من ذوات الفكر، أو تتناقل الأخبار عن ضبطها متلبسة بقراءة كتاب جاد، حيث تصبح منبوذة، فلا أحد يجرؤ على الاقتراب منها خشية العدوى. لا أحد يمكنه العودة إلى ما كان عليه، فالتغيير هو الأسطورة الرئيسية في قصص «مونرو» كالفرق الذي يمكن أن يحدثه طريق جديد لم يكن موجودا من قبل أو انحسار البيوت الخشبية واستخدام قوالب الطوب بديلا، فشغلها الأساسي هو كيف نصنع حياتنا بالقدر نفسه الذي نهرب به منها، وإلى أي درجة يساهم الوقت في اتصالنا مع غيرنا، أو تقوقعنا داخل ذواتنا. عندما يتعلق الأمر بالأطفال الذين يكادون يختفون في قصصها أو يموتون ينعكس قلقها الشخصي وتجربتها الذاتية على الشخوص والأحداث، ففي أنثولوجيا «أميال إلى مدينة مونتانا»، والتي تم نشرها عام 1985 تجد الأب يسحب طفلته من الماء بعد دقائق من الغفلة عنها في بركة السباحة، أما الأم فهي تمد ساقيها بعد رحلة طويلة خلف عجلة القيادة. أما في قصتها «الوصول إلى اليابان» فتتحدث عن إحساس الأم بالذنب، وقد ارتحلت تاركة أطفالها لعدة أشهر لتكتشف نفسها كشاعرة، فتعيش حياة البوهيمية. قصص «مونرو» صعبة في قراءتها لأن الكاتبة مشغولة بمسألة موتها، ففي القسم الأخير من المجموعة وبأمانتها المعهودة، نجد السيرة الذاتية حاضرة بقوة، فهي تقول «هذه الأشياء التي أكتبها عن حياتي هي الأولى والأخيرة والأصدق». هذه التجارب الأربع من السيرة الذاتية تمت كتابتها بحرفية «مونرو» المعهودة، ما أتاح للقارئ فرصة إلقاء نظرة متعمقة على تكوين مونرو ككاتبة. وهذا العنوان الغريب للمجموعة يجعلنا نفكر مليا في قيمة الحياة التي بدأناها والنهايات التي تحملناها. رغم أنني أعد نفسي واحدة من أكثر الناس على الإطلاق اهتماما بالكاتبة، إلا أن المفاجأة أن هذه المجموعة لم تأسرني بالطريقة نفسها، كما الكاتبة الكندية الشهيرة أليس مونرو: وداعا للكتابة.