للأمم المتحدة منذ قيامها عام 1945 تاريخ ملتبس مع العرب في مجموعهم فيما يتصل بقضاياهم العادلة وفي مقدمها القضية الفلسطينية ولو شئنا أن نقول بوضوح إن الأممالمتحدة تتحمل مسؤولية كبيرة في دعم الدولة العبرية منذ إعلان قيامها عام 1948 حتى الآن، وإذا كانت عصبة الأمم قد عايشت بعض فترات مواجهة عنيفة بين الفلسطينيين واليهود في ثلاثينات القرن العشرين إلا أن ارتباط الأممالمتحدة بتطورات القضية الفلسطينية وتوغل إسرائيل في المجالين الدولي والإقليمي إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى تهاون المنظمة الدولية الحالية (الأممالمتحدة) التي شاركت الدول العربية في الأعمال التحضيرية لقيامها وكان من بينها مصر والسعودية ودول عربية أخرى، وما زلنا نتذكر أن الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز كان هو مبعوث المملكة العربية السعودية في تلك الأعمال التحضيرية عندما كان أميراً ينوب عن والده الملك الموحد عبدالعزيز خصوصاً في العلاقات الدولية والشؤون الخارجية حيث استبشر الجميع وقتها بقيام تلك المنظمة في أعقاب حرب عالمية كبرى لكي تتمكن بإرادة الشعوب الأعضاء من إعادة صياغة العلاقات بين الأمم والشعوب والدول التي خرجت من رحم تلك الحرب الكونية الضروس متطلعةً الى مشروع «مارشال» للنهوض بأوروبا الجريحة التي خرجت من الحرب بإنهيار اقتصادي شبه كامل وتمزق سياسي واجتماعي مشهودين فضلاً عن محاكمة مجرمي الحرب في نورمبرغ حيث شاعت موجة من التفاؤل بأن مفهوماً جديداً من السلام سيسود ربوع المعمورة وأن الحرب العالمية الثانية ستكون آخر الحروب الكونية الشاملة لأن جرائم النازية والملايين التي فقدت أرواحها ستكون قادرة على توجيه البشرية نحو السلام الشامل بكل آماله وأحلامه، والآن دعنا نناقش المحاور التالية: أولاً: إن الظروف التي صدر فيها ميثاق سان فرانسيسكو عام 1945 وقيام الأممالمتحدة جاءت في أعقاب انتصار الحلفاء على دول المحور ودحر النازية، فكان طبيعياً أن تعبّر منظومة الأممالمتحدة وهياكل إنشائها عن نتيجة تلك الحرب بحيث أصبحت بحق هي «حلف المنتصرين» وأعطت دول الحلفاء الخمس الكبرى وضعاً دولياً خاصاً فمنحتهم «حق الفيتو» على نحوٍ غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، وكأنما قامت فلسفة الأممالمتحدة، على رغم ديباجة الميثاق الرائعة والشعارات البراقة التي احتوتها، على منطق قوة الدول الكبرى على حساب الدول الصغرى، ولا شك في أن ذلك التمييز كان ولا يزال يمثل عنصر عوارٍ شديد في تركيبة تلك المنظمة الدولية العالمية، ولقد ظل مجلس الأمن نتيجة لذلك هو القبضة القوية للدول الكبرى على بقية دول العالم، والغريب أن أكثر من بليون نسمة هم سكان دولة الصين لم يكونوا ممثلين في مجلس الأمن إلا مع مطلع القرن الماضي عندما رقص مندوب تنزانيا سالم أحمد سالم في ساحة المنظمة في نيويورك تعبيراً عن فرحة الدول الصغرى بانضمام الصين إلى العضوية الدائمة لمجلس الأمن لتحقيق نوع من التوازن المفقود من جانب «حلف المنتصرين»! ثانياً: قد لا يعلم الكثيرون أن الأعمال التحضيرية في سان فرانسيسكو طرحت اسم دولة شرق أوسطية لكي تكون عضواً دائماً في المجلس، إذ إنه عندما بدأ الحلفاء يحددون الدول الدائمة العضوية لم تكن فرنسا من بينها، واقترح البعض أن تكون الدولة الخامسة هي إحدى دول «ما وراء البحار» ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية أو دعموا موقف الحلفاء فيها، وكانت الدولتان المطروحتان هما الهند ومصر، ورجحت كفة الأخيرة لأنها تمثل بعداً عربياً وإفريقياً وإسلامياً في آن واحد، كما أن المعارك الضارية للفيلق الأفريقي بين مونتغمري قائد قوات الحلفاء ورومل ثعلب العسكرية الألمانية قد دارت على أرض مصرية في صحرائها الغربية، وتحمس الكثيرون لعضوية مصر الدائمة للمجلس، إلا أن الحلفاء تراجعوا في اللحظات الأخيرة معتبرين أن تجاهل فرنسا سيمثل لطمة للحضارة الغربية المسيحية، وبذلك حرمت إحدى الدول العربية الكبرى والأفريقية المهمة والشرق أوسطية المحورية من تحقيق حلم الوصول إلى مقعد دائم في مجلس الأمن! ولأن مجلس الأمن هو نادٍ مغلق لذلك فإنه من الطبيعي ألا يتحقق فيه التوازن بين الكبار والصغار وأن يصيبه دائماً الانتقاد الدولي والشعور بالسيطرة على المجلس من جانب الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفائها. ثالثاً: إن الحركة الصهيونية التي يمتد عمرها طويلاً في كواليس السياسة الدولية والتي حاولت التسلل إلى بلاط الإمبراطور بونابرت بل والبلاط العثماني وبلاط محمد علي أيضاً، فإن تلك الحركة العنصرية قد برعت إلى حد كبير في الخروج من الحربين العالميتين الأولى والثانية بمزايا ومكاسب تأسست عليها الدولة العبرية عند قيامها في أيار (مايو) 1948 بقرار من مجلس الأمن ودعم كامل من الدول الدائمة العضوية فيه بما في ذلك بالطبع الاتحاد السوفياتي السابق، كما خرجت إسرائيل من الحرب العالمية الثانية تحديداً وفي يدها «كارت» لأكبر عملية ابتزاز في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة والتي أقامتها على أنقاض ما سمي «الهولوكوست» أو أفران الغاز النازية التي قضى فيها الألوف من اليهود أثناء تعقب «الرايخ الثالث» لهم باعتبارهم أحد أسباب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، إذ قام اليهود بأنشطة تجسس أدت إلى تلك الهزيمة، لذلك ظهرت قضية التعويضات الألمانية لإسرائيل مع ميلاد حركة تعاطفٍ غربية كبرى تجاه تلك الدولة التي جرى زرعها في أحشاء الشرق الأوسط وفي قلب العالم العربي لتمزيقه وإضعافه واستنزاف ثرواته خصوصاً النفط، وقد تناوب الرعاة الغربيون على حماية إسرائيل بدءاً من بريطانيا التي صدر قرار التقسيم بدعمٍ منها مروراً بفرنسا الأم الشرعية للبرنامج النووي الإسرائيلي، وصولاً إلى الولاياتالمتحدة الأميركية التي أصبحت الأب الحقيقي لدولة إسرائيل في العقود الخمسة الأخيرة، وهو ما يعني أن ميلاد إسرائيل وازدهارها قد ارتبط تاريخياً بدولٍ كبرى في مجلس الأمن تحت مظلة الأممالمتحدة التي ادعى مؤسسوها أنها منظمة للشعوب تسعى لتحريرها وإعطائها حق تقرير مصيرها. رابعاً: تتحمل الأممالمتحدة بغير جدال المسؤولية الكبرى عن وصول القضية الفلسطينية إلى وضعها الحالي، إذ إن قراراتها الداعمة لشرعية ذلك الشعب المضطهد على أرضه لم تقترن قط بقوة إلزامية لمجلس الأمن الذي تتحكم فيه الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفاؤها، بل لقد حال هؤلاء أيضاً دون صدور أي قرار إدانة لجرائم إسرائيل والمضي دائماً في دعم الدولة العنصرية وحمايتها من طائلة المسؤولية الدولية أو الإدانة الجماعية، واكتفى المسيطرون على الأممالمتحدة بأن يجعلوا من الجمعية العامة مجرد منبر دولي تنفس فيه الدول عن همومها وتعدد مطالبها وتلوك آمالها وأحلامها من دون طائل. خامساً: لو نظر العرب حولهم لوجدوا أن جزءاً كبيراً من مآسيهم المعاصرة جاء مختوماً بخاتم الأممالمتحدة بدءاً من قرار التقسيم عام 1948 مروراً بحرب السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ثم نكسة حزيران (يونيو) عام 1967 والغموض المتعمد في قرار مجلس الأمن 242، أضف إلى ذلك احتلال الولاياتالمتحدةالعراق وتحميل شعبه عبء حالة من عدم الاستقرار ما زال يعاني منها حتى الآن، وهكذا يترسخ لدينا الإحساس العميق بأن الولاياتالمتحدة الأميركية، وحلفاءها الغربيين، يفعلون ما يريدون عندما يشاؤون مستخدمين القفاز الحريري للأمم المتحدة خصوصاً مجلس الأمن باعتباره الأداة الفاعلة لتنفيذ السياسات العنصرية والعدوانية والاستعمارية. لذلك كان طبيعياً أن يشعر الجميع عرباً وغير عرب من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بأن الأممالمتحدة تنظر إليهم نظرة دونية، ويكفي أن الملايين قد سقطوا في حروب أفريقية غير مبررة في رواندا وبوروندي ومنطقة البحيرات العظمى ولم تعطهم المنظمة الدولية الأولى الاهتمام الذي يليق بالبشر! كما أن إخفاقها في البلقان وقبل ذلك في الحربين الكورية والفيتنامية تبدو كلها تأكيداً على عدم قدرتها على أن تكون أداة فاعلة لحفظ السلم والأمن الدوليين. سادساً: لقد اكتشف العالم بعد الحرب العالمية الثانية أن العامل الاقتصادي يختفي وراء الأسباب الحقيقية للحروب والنزاعات الإقليمية، فكان مشروع «مارشال» لإنعاش أوروبا ثم توقيع اتفاقات «بريتون وودز» لإنشاء المؤسسات الاقتصادية الدولية الكبرى كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهما مؤسستان دوليتان لا تتبعان الأممالمتحدة مباشرة ولكنهما مكملتان لمفهوم التنظيم الدولي المرتبط بقيام الأممالمتحدة ومنظومتها المتكاملة بما في ذلك بقية المؤسسات المالية والإنمائية ووكالة الطاقة الذرية، ولقد وقف العرب دائماً من هذه المنظومة وقفة إيجابية ولكنهم لم يحققوا ما كانوا يتطلعون إليه ويأملونه من تلك المنظمة التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية. سابعاً: أجريت محاولات عديدة لإصلاح شؤون الأممالمتحدة كان أهمها محاولة توسيع حجم العضوية في مجلس الأمن والتخلص من قيد «الفيتو» الذي جعل قرارات المجلس إجماعية وأعطى لدولة واحدة الحق في سقوط أي قرار مهما كان عادلاً! ولقد حاولت المجموعات المختلفة ترشيح دولٍ جديدة للعضوية الدائمة كان منها الهند واليابان وألمانيا والبرازيل وكذلك المجموعة الأفريقية التي تأرجح قرارها بين جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر، ولكن يبقى المشهد الأخير الذي قدمته الديبلوماسية السعودية ليمثل صفعة حقيقية للمنظمة عندما اعتذرت الرياض عن قبول عضوية مجلس الأمن بعد أن انتخبت للحصول على مقعدٍ فيه! هذه نظرة شاملة لمحنة التنظيم الدولي المعاصر المتمثل في منظومة الأممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة وموقف العرب منها وما قدموه لها من دعم عبر العقود الأخيرة وما قدمته هي من عائد محدود لا يتجاوز بعض الجهود الأدبية والإنسانية فيما يتصل بحركة التحرر الوطني في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولكن يبقى السؤال المطروح: متى يستطيع العرب توظيف دور الأممالمتحدة لخدمة قضاياهم العادلة وحل مشكلاتهم المزمنة؟! * كاتب مصري