هل تركت الروايات العربية التي ترجمت -وتترجم - إلى اللغات الأجنبية وبخاصة الفرنسية والإنكليزية، أثراً في الحركة الروائية الغربية الحديثة؟ هل حفرت علامة في ذاكرة القراء مثلما تفعل عادة الروايات العالمية المنقولة إلى لغات أخرى؟ أم أنها عبرت عبور الأعمال الروائية الكثيرة التي تلفظها المطابع بوفرة ثم سرعان ما تختفي بعد مضي عام أو عامين على صدورها؟ لعل ما يدفع إلى طرح مثل هذه الأسئلة هو النجاح الكبير والمفاجئ الذي عرفته رواية «الرهينة» للكاتب اليمني «المخضرم» زيد مطيع دمّاج بعد بضعة أعوام على صدورها (1984)، فهي باتت الآن من اكثر الروايات العربية ترجمة في العالم. وبدا لافتاً جداً أن تُعاود أخيراً دار سويسرية ترجمتها إلى الفرنسية بعد ترجمة صدرت في باريس. وترجمة رواية مرتين إلى اللغة نفسها تعني في ما تعني، أن الرواية نجحت وحققت مبيعاً غير عادي وجذبت قراء كثراً. ومعروف أن الأعمال الأدبية التي تترجم مرتين أو ثلاثاً هي من الأعمال الرائدة التي تحدث سجالاً بعد أن تفرض نفسها على القراء والنقاد، وهذا يفترض «اقتراح» صيغة أو ترجمة أخرى. وقد تكون رواية «الرهينة» وقعت على هذه الحظوة من غير توقع أو تحسّب ومن دون جائزة عالمية أو «علاقات». فصاحبها رحل قبل ثلاثة عشر عاماً ولم يدر في خلده أن روايته ستلقى هذا المصير الحسن. وواضح أن جو الرواية الذي يشبه في طبيعته السرية والملغزة، أجواء «ألف ليلة وليلة» هو الحافز على رواجها غربياً، عطفاً على ارتكازها إلى سرديات تاريخية واقعية تفوق الخيال، وعبرها يرتقي الواقعي إلى مراتب الحلمي والسحري. ولم يقصد دمّاج في «لعبته» هذه، هو الروائي المحافظ والكلاسيكي، إيقاع القارئ، أيا يكن، في شرك «الإكزوتيكية» المعهودة. مثل هذا «الحدث» يصبّ في صميم حركة الترجمة العالمية للرواية العربية التي مازالت تشهد مقداراً من ازدهار وإن أقل من السابق. وإن كان نجيب محفوظ «أبو» الرواية العربية الجديدة، يحلّ في مقدم المشهد هذا، فالأمر ليس بمستهجن، فجائزة نوبل هي التي وفّرت له هذه الحظوة وهو قبلها لم ينعم إلا بالقليل من الترجمات. أما الأثر الذي تركه عالمياً بعدما انهال المترجمون على رواياته عقب نوبل، فما زال غير واضح، على رغم مضي أعوام على فوزه بالجائزة وانتشاره في لغات شتّى. وبدا أن معظم الذين كتبوا عنه كانوا إما من المستشرقين وإما من المترجمين أنفسهم، ناهيك عن بعض النقاد الأجانب الذين لم تترك مقالاتهم أو دراساتهم كبير صدى في الأوساط الأدبية العالمية. واعترف بعض النقاد والصحافيين أنهم لم يجدوا في أعماله ملامح الرواية الحديثة بمقدار ما لمسوا أصداء من رواية القرن التاسع عشر لا سيما الفرنسية. كنت أتحدث مرة مع الروائي والقاص المصري الراحل محمد البساطي عن هذه القضية وتحديداً عن الأثر الذي من الممكن أن يتركه محفوظ في الرواية العالمية، وكان بين يديّ كتاب عنوانه «نجيب محفوظ في عيون العالم»، فقال لي للفور:»إذا لم يترك فينا نحن أثراً فهل تراه سيترك أثراً في الرواية العالمية؟». من يتابع ما يكتب الصحافيون والنقاد عن الروايات العربية المترجمة حديثاً في الصحافة الأجنبية، الفرنسية على سبيل المثل، يكتشف أن ما يُكتب قليل وقليل جداً بل نادر، على خلاف ما تحظى به الروايات الأخرى، الآتية من أميركا وأوروبا وأميركا اللاتينية والصين واليابان والهند وإيران وتركيا... لكنّ هذا لا يعني أنّ ليس من أسماء عربية تحتل حيزاً في الصحافة الفرنسية (على سبيل المثل أيضاً)، وبعض الأسماء تستحق ما يُكتب عنها بجدارة. لكن أسماء أخرى إنما يكتب عنها في منأى عن أهميتها وفرادة أعمالها، إما نزولاً عند علاقات معروفة وما أكثرها، وإما رغبة في جذب القارئ إلى فضائح نافرة وأسرار يعتمل بها العالم العربي، وهي في حكم المسكوت عنها. ويجب عدم التغاضي عن المهمة التي تؤديها الدور نفسها في ترويج مثل هذه الكتب سعياً إلى جذب القراء وإغرائهم «الاستشراقي» والإكزوتيكي. ومن الملاحظ أن الناشرين يركزون كثيراً على مثل هذه الأعمال وذريعتهم أنها تبيع. أما إذا عرضت عليهم أعمال مهمة لروائيين عرب مجهولين غربياً، فهم يعرضون عنها لأنها لا تبيع. إنها لعبة بيع وشراء، اللعبة التي تخضع لشروطها الروايات العربية. ليس المعيار هو الجودة والفرادة أو الأسلوب والعمق، المعيار هو القدرة على البيع، القدرة على الجذب والإغراء. الأمثلة هنا لا تحصى، والقراء يعرفونها جيداً. تُرى هل من الممكن الكلام عن أثر تتركه الروايات العربية المترجمة في ذاكرة القارئ الغربي؟ كم من روايات عربية مهمة تترجم وتصدر ولا يدري بها احد، فتمرّ مرور الأشباح ثم ترمى في كراتين «التنزيلات». كم من روايات مهمة ورائدة لم تترجم ولم يفكر احد، في حمأة الصراع على العالمية، أن يذكّر بها ويقدمها في سوق الترجمة. أما المستشرقون والمترجمون الذين يشبهون المستشرقين، فهم مازالوا يخضعون للذائقة الاستشراقية التي ورثوها وما عادوا قادرين على التخلص منها. ولكن هل تحتاج الروايات العربية الجديدة، وبعضها يفوق ما يصدر في الغرب، أن تُترجم إلى اللغات الأجنبية لكي تنال شهادة تخوّلها العبور إلى العالمية؟