مثل غيره من كبار رسامي عصر النهضة الإيطالي، لا سيما تيتيان، رسم رافائيل خلال مرحلة متقدمة من حياته المهنية كرسام، عدداً كبيراً من البورتريهات، لكن البورتريه الذي رسمه للمفكر والكاتب النهضوي بلداسار كاستيغليوني يظل الأشهر. ذلك أن رافائيل تمكّن في هذه اللوحة المعلقة الآن في متحف اللوفر في باريس، من أن يترجم باللون والموقف والنظرات وانحناءة الجسد وتشابك اليدين، تلك الصورة القلمية التي كان بلداسار رسمها للنهضوي النموذجي من رجال البلاط في كتابه الأشهر «كتاب رجل البلاط»، الذي بدأ كتابته في عام 1508 ونُشر للمرة الأولى في عام 1529. هذا الكتاب يعتبر الآن من الكتب الأساسية التي تعبّر عن النزعة الإنسانية لدى الفكر النهضوي. ولقد دهش مؤرخو الفن والباحثون دائماً إزاء لوحة عرفت كيف تعبّر عن الشخص المرسوم، روحياً وفكرياً بمقدار ما عبّرت عنه جسدياً، واعتبرت إلى جانب «موناليزا» دافنشي، واحدة من أعظم البورتريهات في تاريح الفن العالمي. وبلداسار هو ذلك الكاتب النهضوي الإنساني الذي عاش بين 1478 و1529، وعرف بنزعته الإنسانية، إضافة إلى نجاحه في عمله الديبلوماسي، إذ إنه مارس هذا العمل من خلال تمثيله بلاط أوربينو في روما، حتى عام 1515، عام تحقيق رافائيل لوحته عنه على الأقل. وكان بلداسار صديقاً حميماً لرافائيل. وهذه الصداقة هي التي مكنت الرسام النهضوي، الذي كان مولعاً بالفكر وسير المفكرين (كما تشهد لوحته الأشهر «مدرسة أثينا») من أن يعبر في اللوحة عن مدى الترابط بين ملامح هذا الفكر وأفكاره. ففي كتاب بلداسار كاستيغليوني هذا، عرف الكاتب، من خلال تجربته الحياتية والديبلوماسية، وفي أجزاء الكتاب الأربعة التي صيغت على شكل مقطوعات، كيف يرسم صورة مثالية لرجل البلاط، وبالتالي للإنسان النهضوي في شكل عام، أما الرسام، فإنه إذ حقق بورتريه صديقه على هذا النحو، فإنه قال بكل وضوح إنه يجد في بلداسار صورة نموذجية للشخص الذي وصفه هذا الأخير قلمياً. من بين الذين يشاركون في الحوارات التي تشغل صفحات الكتاب، هناك عدد من كبار تلك الأزمنة بدءاً من الدوقة إليزابيث إلى الكاردينال بيبينيز، وتشيزاري دي غونزاغي، وصولاً إلى الكاردينال بمبو، وجوليانو دي مديتشي. والحوار بين هؤلاء ينطلق حين يقترح أحدهم خلال سهرة، أن يلعبوا معاً لعبة رسم صورة مثالية لرجل البلاط، أو بمعنى آخر أن يحددوا الصفات التي يجب أن يتمتع بها رجل مهذب يعيش في بلاط أمير محترم. هكذا، يتناول الحوار الأول ولادة الرجل المهذب وتربيته. وفي الحوار الثاني نتوقف عند تصرفات هذا «المهذب» داخل المجتمع والكيفية التي ينبغي أن تكون عليها ردود فعله في مختلف الظروف التي يتعرض لها. أما في الحوار الثالث، فإننا نبتعد عن الرجل المثالي، لنتوقف عند صفات المرأة الكاملة التي تعيش في قصر الأمير. وفي الحوار الرابع يتوقف المتحاورون طويلاً عند نوعية العلاقة التي يجب أن تقوم بين رجل البلاط والأمير، وهو حوار يختتمه الكاردينال بمبو بمداخلة مفصلة ومتميزة عن الحب الأفلاطوني (العذري). ونحن نستشف من ردود فعل سامعيه أن هذا الكاردينال كان في ذلك الحين مرجعاً كبيراً وذا صدقية في هذا الموضوع بالذات. وفي شكل عام تتسم كل هذه الحوارات بتلك الأناقة واللباقة اللتين يمكن أن نتصور هيمنتهما تماماً على الأخلاق والتصرفات في ذلك العصر النهضوي الذي بدأ فيه الإنسان يكتشف ذاته وفرديته وقدرته على التعامل مع المجتمع تعامل الند مع الند، من دون أن يجد نفسه مجبراً على الانسحاق التام أمام مجتمع الكثرة. ولسوف نلاحظ من خلال تلك الحوارات كيف أن الأمراء وعليّة القوم، إذ يتوافقون في ما بينهم على مواصفات رجل البلاط المثالي، إنما يرسمون صورة مثالية يمكن الإنسان أن يسير على هديها، بانياً لنفسه أخلاقاً وثقافة مثالية تقربه إلى المثال الأعلى الإنساني. من هنا، اعتبر هذا الكتاب دائماً - وإلى جانب «أمير» ماكيافيللي و «أورلاندو غاضباً» لإريوستو - من خير الكتب التي عبرت عن إنسان عصر النهضة وذهنيته. ذلك أن هذا الكتاب اعتبر في الوقت نفسه دليلاً للسلوك العملي، وأشبه بنصيحة للأمراء، خطهما قلم إنسان «أولمبي» النزعة هادئ الصفات خبر الحياة بأفضل ما يكون، وتمكّن في النهاية من أن يستخلص منها دروساً شديدة الأهمية. لكن الكتاب لم يقتصر على هذا، بل إنه - وبين سطوره - عرف كيف ينطلق من صورة الفرد ليرسم صورة المجتمع في شكل شاعري، في لحظة كان المجتمع يكوّن نفسه فيها كمجتمع. ولعل هذه السمة هي ما جعلت للكتاب منذ نشره للمرة الأولى كل تلك المكانة، فترجم على الفور إلى شتى اللغات الأوروبية واعتمد مقياساً لنجاح الإنسان ومن ثم لقدرة الإنسان على إنجاح مجتمعه. أما لوحة رافائيل، فإنها أتت، وفي كل بساطة، لترسم أفكار بلداسار واحدة في ملامحه وملابسه وتصرفاته انعكاساً للصورة المثالية التي رسمها للإنسان الكامل. فإذا كان الكتاب يطالب رجل البلاط بأن يكون نبيلاً متحفظاً مسيطراً على مشاعره، يعبر عن نفسه بطريقة لائقة وأنيقة ومعتدلة، فإن ملامح بلداسار في اللوحة لا يفوتها أن تعكس هذا كله. إن بلداسار يطالب الإنسان النهضوي بأن يكون ذا معارف ومواهب تشمل الموسيقى والفن والأدب، كما يطالبه بأن يكون رياضياً. يعرف كيف يركب الخيل ويمتشق السلاح ويرقص. كذلك، فإن الرجل يتوقف مطولاً، في الحوارات عند الملابس التي يتعين على النبيل ارتداؤها بأن تكون غامقة وتتفادى الألوان الزاهية وما إلى ذلك. والحقيقة أننا نجد كل هذه الصفات في هذه اللوحة. إذ ها هي لوحة رافائيل تتميز بإيقاعها اللوني الهادئ الذي يكاد يجعل من ألوانها لوناً واحداً غامقاً يشمل الوجه والثياب والخلفية. وكأننا أمام درجات مختلفة للون واحد. واللوحة، في هذا الإطار، تستبعد كل صخب لوني وكل تنميق زائد عن حده. وفيها يرتدي كاستيغليوني الثياب نفسها التي نجده يطالب النبلاء، في كتابه، بارتدائها. أما جسده في اللوحة، فإنه منحنٍ بعض الشيء إلى اليمين في تواضع يشمل الكبرياء في آن واحد. أما الوجه، فتحدّه قبعة سوداء تعطيه مهابة مركزة إياه في علياء أنيقة وسط النصف الأعلى من اللوحة. ومن الأمور ذات الدلالة هنا، أن تغوص القبعة في قبة السترة مؤطرة الوجه تماماً، ما يركز على النظرة الودودة، الجدية والعذبة في آن واحد، التي يوجهها المرسوم إلى المشاهد. أما يدا بلداسار اللتان تخرجان من كمي سترته (ولا تبدوان على أي حال واضحتين تماماً في اللوحة كما هي موجودة الآن، إذ إن جزءاً من قسمها الأسفل قطع لأسباب مجهولة)، فهما تبدوان متشابكتين لتعبّرا في الوقت نفسه عن ثقة بالنفس أرستقراطية كما عن سيطرة تامة على العواطف. ومن المرجح أن رافائيل كان مرتبطاً بصداقة عميقة مع بلداسار كاستيغليوني منذ عام 1506، أي أنه كان لديه ما يقرب من عقد من السنين يراقبه خلاله ويدرس صفاته، لتأتي هذه اللوحة، في نهاية الأمر، محصلة لذلك الارتباط. وحين تعرّف رافائيل (واسمه الأصلي رافائيللو سانتي) إلى بلداسار كان في الثالثة والعشرين من عمره، إذ إنه ولد عام 1483 في أوربينو، ليموت بعد ذلك بسبعة وثلاثين عاماً في روما. ومن المعروف أنه درس الرسم منذ صباه لدى الرسام المعلم بيروجينو، ثم انتقل إلى فلورنسا في عام 1504، ليقيم بعد ذلك في روما منذ عام 1508. وهناك خلف برامانتي في تزيين كنيسة القديس بطرس. واشتهر رافائيل أول أمره بالكثير من اللوحات والجداريات الدينية، وذلك قبل أن يكلف رسومَ صالات البابا جوليوس الثاني، فأعطى هنا أفضل ما عنده بين جداريات دينية وتاريخية وفكرية (وإلى هذه المجموعة تنتمي لوحته «مدرسة أثينا»). وهو أثناء ذلك حقق الكثير من اللوحات والبورتريهات الصغيرة ومن بينها بورتريه كاستيغليوني هذه. [email protected]