11% انخفاض المصروفات على خدمات الاتصالات    بيان المملكة.. الصوت المسموع والرأي المقدر..!    الرياض.. وازنة القرار العالمي    ترامب وبوتين.. بين قمتي «ريكيافيك» و«السعودية»!    منتدى الاستثمار الرياضي يسلّم شارة SIF لشركة المحركات السعودية    الأهلي تعب وأتعبنا    ملّاح داكار التاريخي.. بُترت ساقه فامتدت أسطورته أبعد من الطريق    غرامة لعدم المخالفة !    ريم طيبة.. «آينشتاين» سعودية !    إنهاء حرب أوكرانيا: مقاربة مقلقة لهدف نبيل    فورمولا إي (جدة إي بري)..السيارات الكهربائية في مسار متسارع نحو القمة    مانشستر يونايتد يسقط أمام توتنهام    وزير الاقتصاد والتخطيط يلتقي عددًا من المسؤولين    أمين الرياض يحضر حفل سفارة كندا بمناسبة اليوم الوطني لبلادها    جازان تقرأ معرض الكتاب يحتفي بالمعرفة والإبداع    بينالي الأيقونة الثقافية لمطار الملك عبد العزيز    وزير الموارد البشرية يُكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز في دورتها ال 12    جولة توعوية لتعزيز الوعي بمرض الربو والانسداد الرئوي المزمن    وزير الداخلية ونظيره الفلسطيني يبحثان مسارات التعاون الأمني    شرطة الرياض تضبط 14 وافداً لمخالفتهم نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    وزير الداخلية والرئيس التونسي يستعرضان التعاون الأمني    على خطى ترمب.. أوروبا تتجه لفرض قيود على استيراد الغذاء    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لدولة الكويت    الأخضر السعودي تحت 20 عاماً يخسر أمام العراق في كأس آسيا    رئاسة الشؤون الدينية تدشن الخطة التشغيلية لموسم شهر رمضان    إطلاق معسكر "مستقبل الإعلام في الذكاء الاصطناعي التوليدي"    إحباط تهريب 240 كيلوغراماً من نبات القات في جازان    أمير جازان يدشن حملة التطعيم ضد شلل الأطفال ويعطي الجرعة الاولى لأحد الأطفال    بموافقة الملك.. «الشؤون الإسلامية» تنفذ برنامج «هدية خادم الحرمين لتوزيع التمور» في 102 دولة    سليمان محمد السليم... في ذمة االه    2 % معدل التضخم في المملكة.. ضمن الأقل بين دول «G20»    إطلاق خدمة تفعيل نظام دخول الشاحنات للشرقية بمواعيد إلكترونية    أمير نجران يكرّم مدير فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة سابقاً    آل الشيخ: نعتزُّ بموقف السعودية الثابت والمشرف من القضية الفلسطينية    مي كساب: تأجيل عرض «نون النسوة» إلى بعد رمضان    ارتفاع عدد قتلى تدافع بمحطة قطارات نيودلهي ‬إلى 18 على الأقل    بعد هدف وتمريرتين حاسمتين.. الصحافة الإسبانية تتغنى بأداء بنزيما    انطلاق اختبارات الفصل الدراسي الثاني في مدارس تعليم الرياض    جمعية الذوق العام تنظم مبادرة "ضبط اسلوبك" ضمن برنامج التسوق    المملكة تعرب عن دعمها الكامل للإجراءات التي اتخذتها الجمهورية اللبنانية لمواجهة محاولات العبث بأمن مواطنيها    "كبدك" تقدم الرعاية لأكثر من 50 مستفيدًا    أمطار رعدية وسيول في عدة مناطق    قمة «IAAPA» في الرياض.. مركز عالمي للوجهات الترفيهية    تبادل دفعة "الأسرى" السادسة ضمن اتفاق وقف النار في غزة    جدد رفضه المطلق للتهجير.. الرئيس الفلسطيني أمام القمة الإفريقية: تحقيق الأمن الدولي يتطلب دعم مؤتمر السلام برئاسة السعودية    عدم تعمد الإضرار بطبيعة المنطقة والحياة البرية.. ضوابط جديدة للتنزه في منطقة الصمان    الأرصاد: الأجواء معتدلة في رمضان    استمع إلى شرح موجز عن عملهما.. وزير الداخلية يزور» الحماية المدنية» و» العمليات الأمنية» الإيطالية    تآلف الفكر ووحدة المجتمع    فجوة الحافلات    «ليب».. أحلام تتحقق    تكساس تشهد أسوأ تفش للحصبة    عبدالعزيز بن سعود يزور وكالة الحماية المدنية الإيطالية    "أبواب الشرقية" إرث ثقافي يوقظ تاريخ الحرف اليدوية    843 منافس في مسابقة شاعر الابداع بعنيزة    الهوية الصامتة    قصة الدواء السحري    الحيوانات تمرض نفسيا وعقليا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«دي تافيري» لألغريكو: الروح صورة تنبعث من جثمان الميت
نشر في الحياة يوم 12 - 07 - 2011

كان الملك الإسباني فيليب الثاني هو من طلب من الرسام ألغريكو إنجاز تلك اللوحة التي ستشتهر لاحقا باسم «استشهاد القديس موريس والطابور التيبي». ولكن حين أنجز الفنان الكبير اللوحة وعرضها على العاهل، الذي اشتهر في ذلك الحين بحبّه للفن وتحرر أفكاره، جفل الملك وشجب اللوحة على الفور. لقد أرعبه فيها ان الرسام لم يبال كثيراً بالموضوع الرئيسي للوحة، وهو استشهاد القديس ومعه اربعون ألف رجل، فجعل المشهد الدرامي يقبع في خلفية اللوحة، وهو أمر لم يكن معهوداً. صحيح ان فيليب الثاني احتفظ باللوحة ودفع كلفتها الى الفنان، لكنه آلى على نفسه ألاّ يعود بعد ذلك إليه ليطلب منه أي لوحة.
كان الأمر محزناً لألغريكو بالطبع، لكنه لم يحبطه، بل لم يدفعه الى اي استرخاء أمام السلطات، إذ ما ان انقضت تلك «الحادثة» حتى رأيناه يقيم دعوى قضائية ضد «مصلحة الضرائب»، محتجاً على ما تجبيه من الفنانين من «إتاوات» (كما سماها)، مطالباً بأن يعفى الفنانون، لأنهم - في حقيقة أمرهم - بشر من نوع خاص جداً ولا يجوز ان يعاملوا معاملة التجار والمرابين. لسنا نعلم بالضبط إلام آلت تلك المعركة القضائية، لكن الحكاية نفسها تفيدنا ان ذلك الرسام اليوناني الأصل (لقبه بالإسبانية كان يعني «الإغريقي») كان قوي الشكيمة، جاداً في نظرته الى فنه ومهنته، صلباً في مطالبته بما يعتقده حقوقه، حتى ولو ورّطه ذلك في مواقف ضد السلطة وفي إغضاب الملك. وزاد من حدة الأمر ان ألغريكو لم يكن اصلاً يعيش في وطنه، بل في الغربة، وأنه بالكاد كان يتكلم اللغة الإسبانية. ولكن علينا ان ننتبه هنا الى ان ألغريكو عاش الردح الأكبر من حياته - 36 عاماً - في مدينة طليطلة، التي كانت في ذلك الزمن (النصف الثاني من القرن السادس عشر والقسم الأول من القرن التالي له)، في إرث تنويري عربي واضح، مدينة للتعددية الثقافية وتلاقح الحضارات. وكانت إسبانيا، بعد ظلمات محاكم التفتيش، بدأت تعرف شيئاً من الاستقرار والانفتاح.
ولكن حتى من دون هذا كله، كان في وسع ألغريكو ان يكون هو هو، مشاكساً، فناناً كبيراً، ويهوى ان يسير إنما عكس التيار، ومن دون ان يتنازل عن آرائه وتطلعاته الفنية، بل السياسية، ومن هنا اعتُبر متفرداً في مجاله الفني. ورأى الباحثون دائماً أنه يكاد يكون البداية والنهاية لتيار اختُص به، ولم يكن له فيه مقلدون، حتى وإن تأثّر به كثر من بعده، أدهشهم فيه جرأته، وحداثته المطلقة، وتعامله مع سطح اللوحة وكأنه مرآة للروح لدى الشخصيات التي يرسمها، ناهيك بألوانه التي جمعت الكثير من الأساليب الجريئة، وأغاظت في زمانها بقدر ما أفرحت، وأعطت لفنه ذلك البُعد البصري الذي جعل اللوحة اشبه بميدان تتصارع فوقه امواج الألوان والخطوط في حركة لا تهدأ. والحال ان ألغريكو نفسه كان حركة لا تهدأ، وجرأة لا نهاية لها. وحسبنا للتيقن من هذا، ان نتأمل مطولاً في واحدة من آخر اللوحات التي رسمها ألغريكو في حياته، وكان بدأ بها في العام 1609، وأنهاها في العام 1614 الذي مات فيه. إن هذه اللوحة التي يبلغ عرضها 83 سم وارتفاعها اكثر من المتر الواحد بقليل، والمعلقة الآن في بهو مستشفى مار يوحنا المعمدان في طليطلة (توليدو) نفسها، تمثل - من ناحية مبدئية - الكاردينال خوان دي تافيري، أحد كبار رجال الكنيسة الإسبانية الكاثوليك في ذلك الحين. ويقال ان هذا الكاردينال كان متنوراً ومنفتحاً على الآخرين، طيّب السريرة. ولكن من الواضح أن أخلاقه هذه لم تكن هي تحديداً ما أثار حماسة ألغريكو لرسمه، فالمرجّح ان ما رسمه ألغريكو من خلال ملامح هذا الكاردينال وجلسته، إنما كان ملامحه هو الشخصية وموقفه من الحياة والموت. وللدنوّ من هذه الفكرة، قد يكون علينا ان نقارن بين هذه اللوحة ولوحة اخرى لألغريكو رسمت قبل ذلك بنحو عقد ونصف العقد من السنين (العام 1600)، وسميت ب «صورة شخص مجهول»، مع ان المؤرخين يكادون يجمعون على انه صورة شخصية رسمها ألغريكو لنفسه. وكذلك قد يكون علينا ان نقارن اللوحتين ببورتريه ثالثة رسمها ألغريكو كذلك في العام 1600 للقديس جيروم، في زي كاردينال. والحال أن ما نخرج منه عبر هذه المقارنة، إنما يعزز القناعة بأن الرسام، في لوحة «الكاردينال خوان دي تافيري»، إنما كان يختتم تأمله في خريف الإنسان، يصوّر دنوه من الموت بعدما ذاق طعم الحياة. إذ هنا، وفي مقابل إشعاع الحياة في «صورة شخص مجهول» والموقف الوسط بين الحياة والموت في لوحة القديس جيروم، نجدنا في مواجهة لوحة لا شك في حيويتها، كما لا شك ايضاً في عمق تشابه وجه المرسوم فيها مع وجه الكاردينال، ولكن لا شك ايضاً، وفي الوقت نفسه، انها لوحة تعكس بصدق وقوة شخصية الفنان نفسه. ويرجّح الباحثون في حياة ألغريكو وأعماله، ان الرسام انما استخدم قناع الموت الخاص بالكاردينال لكي يرسم له هذا «البورتريه»، علماً ان الكاردينال نفسه مات في العام 1545، اي قبل تنفيذ اللوحة بنحو ثلاثة ارباع القرن.
ولعل اول ما يمكن ملاحظته في هذه اللوحة (التي من المؤسف اننا لا نستطيع هنا تقديمها بألوانها) هو ذلك اللون الأبيض الشاحب الذي يغطي وجه الكاردينال، ويلقي بثقله حتى على ردائه الأحمر اللون عادة. إنه شحوب الموت يهيمن على اللوحة ككل، فإذا أضفنا الى هذا ان يد الكاردينال مرمية بثقل واضح على كتاب موضوع فوق طاولة يندفع منظورها بقوة نحو مشاهد اللوحة، نجد ان هذا كلّه يعزز من الانطباع بانشداد اللوحة طولياً، كما يحدث عادة في لوحات ألغريكو، إذ يأتي المنظور دائماً ليعطي الانطباع بذلك الانشداد الطولي. وعلى هذا يبقى ألغريكو اميناً لأسلوبه في رسم الشخصيات مشدودة بين الأعلى والأسفل في لحظة معلقة. اما الهدوء الذي يلوح في سمات الكاردينال، فمن الواضح انه هدوء الموت اكثر منه هدوء الحكمة. وحسبنا التدقيق في نظرة العينين الميتة والمظلمة المحدقة في المشاهد وسط محجريهما، لنرى مبلغ ما في اللوحة من نذير مرعب. إن نظرة الكاردينال هنا وشحوبه وصرامة يده، تبدو وكأنها تخاطب ذلك المشاهد مباشرة واضعة إياه امام حقيقة نهائية واحدة هي الموت.
في هذه اللوحة ايضاً - وهي التي ختم بها تقريباً حياته -، ظل ألغريكو أميناً لأسلوبه الذي كان، في الأصل، نوعاً من المزج الخلاق بين أساليب عدة ينتمي بعضها الى عصر النهضة المتأخر وبعضها الآخر الى فن الأيقونة البيزنطي، طالعاً من ذلك كلّه بأسلوب شديد الخصوصية، كان المعلن عن الوصول الى فن باروكي هيمن على الحياة التشكيلية خلال الحقبة التالية. وهذه النزعة الباروكية، حتى وإن كانت ثانوية الأهمية في هذا «البورتريه»، قد يكون علينا ان نبحث عنها لدى ألغريكو، حقا، في بعض أعماله الكبيرة الأخرى، مثل صورة «طليطلة» و «الصلب» (1590) و «دفن الكونت اورغاث» (1586- 1588)، وخصوصاً لوحته «لاؤوكون» (1610- 1614).
ولد ألغريكو (واسمه الأصلي دومنيكوس ثيوتوكوبولوس) في جزيرة كريت، العام 1541 على الأرجح. تلقى تدريبه الأوّلي على الرسم في البندقية التي نزح إليها وهو بعد في مقتبل الصبا. وفيها تأثر خصوصاً بالرسام الذي كان ذائع الصيت هناك تنتوريللو. وإذا كان من الصعب معرفة امور كثيرة حول حياة ذاك الذي لقب لاحقاً بالإغريقي (ألغريكو)، فالتصق به الاسم تماماً، حتى وإن كان هو وقع لوحاته دائماً باسمه اليوناني رافضاً التخلي عنه، فإننا نعرف على الأقل انه انتقل في العام 1577 الى إسبانيا ليعيش تحديداً في توليدو طوال الستة والثلاثين عاماً الأخيرة من حياته. وهناك، لذاته وللكنيسة وللأعيان وأحيانا للقصر الملكي، أبدع لوحاته الكبيرة التي كانت صدامية مثيرة للدهشة وللغضب في معظم الأحيان. وهناك ازدهر فنه وحياته حتى وإن كانت أعماله الكبير التصقت بروحه وذاته، من دون أقنعة، حتى حين كانت تمثّل مشاهد تاريخية او دينية، الى درجة ان بعض الباحثين رأى فيه اولَ وأكبرَ رسام ذاتي النزعة في تلك العصور. ومات ألغريكو في العام 1614 مخلفاً عملاً متعدد المواضيع موحد الروح لا يزال يدهش ويطرح اسئلته حتى يومنا هذا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.