وحيدان. نجلس معاً في شرفتنا الفسيحة، نتأمل العصافير التي تتعانق فوق غصون الشجرة الكبيرة، تلفها وتقلبها نسمات الحب والمرح الجميل. أمسك يد زوجتي الطرية المثقلة بالأيام والشجن. تصطدم أناملي ببعض الخشونة في ظاهر يدها. تسقط نظراتي عليها، فتتعثر في بقع الشيخوخة البنية التي تزداد كل يوم على جلدها وجلدي. أهم بالنهوض. تسألني عن السبب. أقول: سأحضر «الغلسرين». لا تسمع. تعيد سؤالها. أعيد عبارتي وأكملها: يدي خشنة من الوضوء. تقول: وأنا أيضاً. تستطرد: ابق أنت وأحضره بدلاً عنك. ركبتاك تؤلمانك. أربت على كتفها بحنان حتى تبقى. أنا من يجب أن يقوم. أصلب طولي بصعوبة. جسدي ثقيل رغم نحولي وعظامي المفككة. أجر قدمي على بلاط الأرضية الذي يشبه رقعة الشطرنج. قدماي في شبشب من قماش صوفي أخضر، والنعل من الجلد الخفيف. شرع النعل في التآكل بسبب زحف أقدامي. أمسك بيدي المرتعشة زجاجة الغلسرين، محاذراً ألا تفلت، فكم أفلت غيرها! أعود إلى الشرفة. أصب قطرات من السائل الشفاف الثقيل على ظاهر يدي اليسرى، وأمر بظاهر يمناي عليه. أمسد المواضع الخشنة. تمد زوجتي يدها المعروقة. أصب على ظاهر يدها. أضع زجاجة الغلسرين على المنضدة الخيزران، وأرتاح في الكرسي الخيزران، مستمتعاً بشمس الشتاء. أتأمل مع أم شادي حركة العصافير واهتزاز الغصون الرفيعة التي تبادل العصافير الرقص والمرح. تقول فجأة وهي تحدق في العصافير: اشتقت إلى الأولاد. أتنهد وأتذكر أنني كنت أحس إلى عهد قريب أن الأولاد عزوة. ماذا جرى؟ العيال لا تسأل عنا. كيف انتزعت من صدورهم القلوب التي كانت عليها أصابع الرب، وحشيت مكانها قلوب من حجارة أو البلاستيك؟ جاء شادي يزورنا من شهر. تهللت أمه. اكتشفت بعد دقائق وقبلات باردة، أنه جاء يسأل عن إحدى أوراقه القديمة. صورة من شهادة الميلاد، أو شهادة الإعفاء من التجنيد. أخوه جاء الأسبوع الماضي، فأسرعت أمه تسأله: أين الأولاد؟ لماذا لم تحضرهم معك؟ لم يتصور ابننا أنهم غذاؤها وسقيا قلبها. تشاغل بالحديث في التليفون. طلب مفتاح الطابق الأرضي المغلق. قرر أن يستخدمه كمخزن. بعد لحظات عاد ليعلن سخطه على إهمالنا. الحيطان متهرئة والمياه بارتفاع ربع متر. أسرع بالخروج رامياً في آذاننا وعداً بالعودة. تكومت أم شادي على كرسيها. بدا أنها تضاءلت وقل حجمها وتداخلت أعضاؤها. فرت من عينيها دمعتان. تقبع في شبه منفى. تراجع بصرها أولاً، ثم سمعها. المصيبة تكمن في الذاكرة. إذا لم يستطع الشخص أن يتذكر يوماً من أيامه القديمة التي تراكمت فوقها أيام كثيرة، فهذا يعني أنه يستعد للرحيل. ذاكرة أم شادي تشبه الآن غربالاً لا يستبقي شيئاً. كثيراً ما ترفع سماعة التليفون لاعتقادها أن جرسه رن طويلاً. في كل مرة تتوقع أن يكون أحد الأحفاد. تقول: لعله كوكي ابن حنان، أو هبة ابنة مجدي. الصمت معنا دائماً حتى داخل أجسادنا. بل كأنه ينبع منها. أحدق في يدي التي يلتمع على ظاهرها الغلسرين. السائل لا يستطيع أن يخفي التشققات والتجاعيد التي لا تكف عن حفر مساراتها في جلدي. عندما ترحل في شرودها وتسافر في أوهامها، أعرف السر أقول: الدنيا مشاغل يا هدية. تلوح يدها أمام وجهها لتهش ذبابة، قائلة بلا اقتناع: يمكن. أتصور أني أهون عليها بقولي: كان الله في عونهم. جاءتني الذبابة التي كانت تهشها. وقفت على أنفي. خشيت دفعها حتى لا تذهب وتقف على وجهها وتزعجها من جديد. قلت: سليمان جارنا تعيشي أنت. شردت لحظات، ثم قالت: كان ميتاً من زمن. أضيف: الجيران عرفوا بموته من رائحته. لم نجد ما نقوله لدقائق مرت كساعات طويلة. قلت ويدي على فخذها: ربنا يطول لنا في عمرك. علت وجهها ابتسامة شاحبة. رفعت عينيها إلى السماء وهي تقول: يا رب... لا تسمع منه. دهشت: ماذا تقولين يا أم شادي؟ - يا رب اجعل يومي قبل يومه. - بعد الشر عنك يا غالية. هبط السكوت علينا كالعادة. في أحيان كثيرة يبدو الكون مساحات بيضاء فارغة. جف كل شيء. بعد دقائق قلت: عندك حق، أتمنى أن تموتي قبلي، حتى لا تقاسي من الحزن على فقدي. عاد الصمت يلفنا بكثافة، إلى أن قالت: ما رأيك أن نموت معاً؟ ابتسمتُ. ربتت بيدها على ركبتي وعادت للشرود. حلق في سمائنا طائر الانتظار. ماذا ننتظر؟ لا شيء ولا أحد سوف يأتي. أنا فقط أريدها دائماً معي. وكثيراً ما فكرت، هل كان يمكن أن تكون لي رفيقة عمر غيرها؟ لو كان معي غيرها لما عرفت سبيلاً للسعادة. غاب الأولاد والشرفة. لم يعد يبلغ آذاننا ضجيج الشوارع ولا حتى لهو العصافير فوق الأغصان. السكون يحط ويتغلغل وينعدم الإحساس بالسكون.